في رحاب القرآن: تفسير سورة “المطففين”

في رحاب القرآن: تفسير سورة “المطففين”


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)” صدق الله العظيم سورة المطففين مدنية في قول الحسن مكية وهي أول سورة نزلت بالمدينة. يقول الله تعالى (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون). * عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فانزل الله تعالى (ويل للمطففين) وأحسنوا الكيل بعد ذلك قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة وكان هذا فيهم وكانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح وإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان فلما نزلت هذه السورة انتهوا فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. قول الله تعالى (ويل) أي عذاب شديد في الآخرة وقال ابن عباس واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار أي (ويل للمطففين) أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم وروي عن ابن عمر قال المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم انه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. * وفي الموطأ قال مالك ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف وروي عن سالم ابن أبي الجهد قال: (الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك (ويل للمطففين) وقال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف وهو القليل والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا للشيء الطفيف الخفيف وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وقيل المطفف هو الذي يخسر في الكيل والوزن. قوله تعالى (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) يقال اكتلت منك: أي استوفيت منك وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والمعنى: الذين إذا استوفوا اخذوا الزيادة وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. قوله تعالى (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت الكلام فتعدى الفعل فنصب وفى القرطبي الجانب اللغوي حقه في تفسيره لهذه السورة والذي أوردنا عنها المعاني السالفة الذكر كعادته واللغة هي وعاء كتاب الله ولا سبيل إلى استكناه مراد الله بغير معرفة اللسان الذي نزل به فهو تفسير كله تمحيص وتحقيق وتدقيق في ما يورده سواء كان حديثا أو شعرا أو نثرا وكذلك فيما ألف التفسير من اجله أي بيان الأحكام التي تضمنتها سور وآيات الكتاب العزيز على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن انس وهو بذلك مفخرة للمالكية. * قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسل (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا حكموا بغير ما انزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات واخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر) أخرجه أبو بكر البزار. * قال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت فجعل يقول جبلين من نار، جبلين من نار فقلت: ما تقول أتجهر؟ (هجر أي هذى) قال: يا أبا يحي كان لي مكيالان أكيل بأحدهما واكتال بالآخر فقمت فجعلت اضرب احدهما بالآخر حتى كسرتهما فقال يا أبا يحي كلما ضربت احدهما بالآخر ازداد عظما فمات من وجعه. * وقال عكرمة اشهد على كل كيال أو وزان انه في النار قيل له فان ابنك كيال أو وزان فقال: اشهد انه في النار وسمعت أعرابية تقول "لا تلمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل ولا السنة الموازين. * وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح فأكفأ الميزان ثم قال: أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفضل الواجب من الفعل. * وقال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط فان المطففين يوم القيامة يوقفون حتى أن العرق ليجمهم إلى أنصاف أذانهم. * وقد روي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف سباع بن عرفطة فقال أبو هريرة: فوجدانا في صلاة الصبح فقرا في الركعة الأولى “كهيعص” وقرا في الركعة الثانية “ويل للمطففين” قال أبو هريرة فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي وإذا كال كال بالناقص. أوردت كل هذه التفاصيل وكل هذه النقول المفيدة للاستفادة منها ورحم الله الإمام القرطبي هذا العالم الجماعة الذي لا يكاد يترك في تفسيره شاردة ولا واردة إلا أتى عليها فلا يتجاوز الآية إلى آية أخرى إلا بعد أن يوفيها حقها وها هو ذا كما يرى القارئ يتوسع في بيان معنى التطفيف مما تقتضيه أحوال الناس خصوصا في زماننا جري وراء الربح العاجل وما درى هؤلاء أنهم يضمون إلى أموالهم أموالا حراما توشك أن تأتي عليها وما درى هؤلاء أنهم يأكلون نارا وما درى هؤلاء انه كما ورد في عديد الأحاديث النبوية (أن لحما نبت من الحرام النار أولى به) و(أن الواحد يلقى في بطنه اللقمة فيها شبهة حرام يبقى أربعين يوما غير مستجاب الدعوة) وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرجل أشعث اغبر يطيل السفر ويرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب، أنى يستجاب له ومأكله من الحرام ومشربه من الحرام وقد غذى من حرام) وقد سأل احد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أكون مستجاب الدعوة فقال له رسول الله: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة). إن توسع القرطبي وتوقفه مطولا عند بيان الويل الذي أعده الله للمطففين في الميزان في محله لان الكثير من الناس يتهاونون في هذا الأمر ويهونون من شانه وفيه ظلم عظيم وهو دليل على الأنانية وليس ذلك من شيم المؤمن الذي يخاف الله ويراقبه ويخشى من شديد عقابه وعذابه لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غش فليس منا) فلا يكون الواحد منا مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. إن الدين علامته هو المعاملة الصحيحة والمسلم الحق هو من سلم الناس من لسانه ويده. ثم يقول جل من قائل (ألا يظن أولئك لنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) إنكار وتعجب من أحوال هؤلاء الغافلين عن يوم البعث الذي لا ريب فيه واليوم الذي سيقفون فيه بين يدي الله ليحاسبهم عما قدمت أيديهم، لو كانوا موقنين لما طففوا في الميزان كان عليهم أن لا يقعوا في هذا الصنيع الشنيع فوراءهم يوم عظيم. عن عبد الملك ابن مروان أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين أراد بذلك أن المطففين قد توجه إليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وقرا ابن عمر (ويل للمطففين) حتى بلغ (يوم الناس لرب العالمين) فبكى حتى سقط وامتنع عن قراءة ما بعده: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يوم يقوم الناس لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فمنهم من يبلغ أذنيه حتى أن احدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع) وأورد القرطبي أحاديث أخرى عن أحوال الناس في هذا اليوم العظيم عن أبي سعيد الحذري عن النبي صلى الله عليه وسلم (انه ليخفف عن المؤمن حتى يكون اخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا) وقيل إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس والدليل على هذا من كتاب قوله الحق (ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم وصفهم فقال (الذين آمنوا وكانوا يتقون) جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده ومنه آمين قاله القرطبي ونحن نؤمن على دعائه ويختم القرطبي بإفادة يبين فيها القيام وكيف انه حقير لا يساوي شيئا بالإضافة إلى عظمة الله فأما قيام الناس لبعضهم فاختلف فيه الناس فمنهم من أجازه ومنهم من منعه وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر واعتنقه وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: (قوموا لسيدكم) وقال أيضا: (من سره أن يتمثل له الناس فليتبوأ معقده من النار) يقول القرطبي وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته إن انتظر ذلك واعتقده لنفسه فهو ممنوع وان كان على طريق الوصلة فانه جائز وخاصة عند الأسباب كالقدوم من السفر ونحوه. ثم يأتي بعد ذلك قوله جل من قائل (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) كلا للردع والتنبيه على التطفيف في الكيل والميزان وهو سلوك خاطئ وتصرف مخالف لمراد الله من عباده وهو علامة عن عدم تصديق وإيمان باليوم الآخر ولو كان هؤلاء يؤمنون باليوم الآخر يوم الوقوف بين يدي الله للحساب لما أقدموا على التطفيف في الكيل والميزان. حقا (إن كتاب الفجار لفي سجين) قال مجاهد “سجين” صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها وقد أورد القرطبي أقوالا عديدة نسبها إلى أصحابها في معنى السجين وهي لا تبتعد في معناها عن بعضها. ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الكافر يحضره الموت وتحضره رسل الله فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه ورفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة وهي سجين وهي آخر سلطان إبليس فاثبتوا فيها كتابه. وقد قيل هو ضرب مثل وإشارة إلى انه الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. * وقال انس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سجين أسفل الأرض السابعة يقول القرطبي معقبا على ما أوردنا بعضه من الأقوال (والمعنى كتابهم في حبس جعل دليلا على خساسة منزلتهم أو لأنه يحل من الإعراض عنه والأبعاد له محل الزجر والهوان). (وما أدراك ما سجين) والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان يعلم ما سجين لا هو ولا قومه (كتاب مرقوم) أي مكتوب لا ينسى ولا يمحى. (ويل يومئذ للمكذبين) عذاب شديد ينتظر المكذبين يوم يقفون بين يدي رب العالمين (الذين يكذبون بيوم الدين) الذي هو يوم الحساب والجزاء الذي دعا إلى التصديق به الأنبياء والمرسلون وبلغوه إلى أقوامهم فما آمن بيوم الدين الكافرون (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) فالمكذبون بيوم الدين هم معتدون وهل هنالك عدوان أعظم وظلم اكبر من الكفر بما انزل الله على رسله وانه لفاجر حائد عن الحق معتد على نفسه وعلى الناس. (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) ذلك هو قول الكافر في كل الأزمنة والأمكنة شنشنة يرددونها ويتوارثونها كبرت كلمة تخرج من أفواههم يصفون بها وحي الله وهديه المنزل على رسوله بأنه أساطير أي أكاذيب وافتراءات مختلفة. (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ليس ما جاء به الأنبياء والرسل من الأساطير والأكاذيب حقا لقد ران على قلوب الكفار والران هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد إذا اخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه فان عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). قال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخز الإبرة ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك ثم إذا أكثر الذنوب صار القلب كالمنخل أو كالغربال لا يعي خيرا ولا يثبت فيه صلاح. (كلا إنهم) حقا إنهم (عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ليس كما يقولون. وذلك على عكس وخلاف المؤمنين الذين لن يكون بينهم وبين ربهم حجاب قال مالك بن انس في هذه الآية: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس انه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا وقال الحسين بن الفاضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته ورحمته ممنوعون. (ثم إنهم لصالوا الجحيم) إن مستقرهم هو في الجحيم والجحيم قيل هو الباب الرابع للنار يلازمونه (ثم يقال لهم) من طرف ملائكة النار وخزنتها (هذا الذي كنتم به تكذبون) أي جزاء وعقابا على تكذيبكم رسول الله وأنبيائه عليهم السلام. (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) حقا فعلى خلاف المكذبين فان كتاب أعمال المؤمنين في عليين أي مرفوع وقال ابن عباس أي في الجنة وقال أيضا: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وعن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها فيقولون: رب عبدك فلان وهو اعلم منهم فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب وقد أورد القرطبي في معاني عليين أثارا كثيرة كلها تدل على المنزلة الرفيعة التي عليها أحوال الأبرار. وفي الحديث الشريف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا فإذا اشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه فيقولون ما هذا النور؟ فيقال اشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق (وما أدراك ما عليون) وفي ذلك تعظيم ولفت للانتباه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (يشهده المقربون) أي الملائكة فعمل الأبرار تصعد صحيفته إلى الملائكة إلى أن ينتهي إلى اسرافيل فيختم عليها. (إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون) الأبرار هم من صدقوا وأطاعوا الله أولئك في نعمة أي يتنعمون على الأرائك وهي الأسرة (ينظرون) إلى ما كرمهم الله به وينظرون إلى الكافرين (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) تبدو عليهم البهجة والمسرة ويعلو وجوههم نور (يسقون من رحيق) وهو الشراب الصافي وقيل الخمر الصافية (مختوم وختامه مسك) تختم به آخر جرعة بالمسك وهي رائحة شراب أهل الجنة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) من اجل بلوغ هذه المرتبة من التنعيم فليتنافس المتنافسون وذلك هو ميدان السبق (ومزاجه من تسنيم) وهو شراب يتصبب من أعلى وقيل تسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها فإذا امتلأت امسك الماء فلا تقع قطرة على الأرض ولا يحتاجون إلى الاستسقاء. (عينا يشرب بها المقربون) أي يشرب من هذه العين أفضل أهل الجنة من المقربين الذين انعم الله عليهم جزاء عملهم الصالح في الدنيا. (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين) (الذين أجرموا) هم الكفار وهم الذين كذبوا بما جاء به الرسل والأنبياء وبما دعوهم إليه من إيمان بالله فقد استهزأ هؤلاء الكفار بالمؤمنين كانوا إذا مروا بالمؤمنين يضحكون سخرية واستهزاء ويغمز بعضهم بعضا ويعيرون المسلمين ويعيبونهم (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين) أي إذا عادوا إلى أهلهم يعبرون عن عجبهم وخيلائهم وتباهيهم بما هم عليه من كفر (وإذا رأوهم) أي إذا رأى الكفار المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إنهم ضالون، سبحان الله من هو الضال؟ أهؤلاء الكفار الغواة أم أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله؟! ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. (وما أرسلوا عليهم حافظين) وليسوا رقباء على المؤمنين ولا مكلفين بمتابعة أحوالهم. (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) اليوم، يوم القيامة وعند الوقوف بين يدي الله تنعكس الآية فالمؤمنون هم الذين سيضحكون فقد وجدوا ما وعدهم ربهم من تنعيم وتكريم للمؤمنين ومن عذاب للكفار الذين كذبوا بيوم الدين وكانوا يسخرون في الدنيا بالمؤمنين. (على الأرائك ينظرون هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون) أي جوزي الكفار بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا يقول المؤمنون لبعضهم هل أثيب وجوزي الكافرون والجواب نعم لقد جوزي الكفار الجزاء العادل وذلك هو مصير كل من لا يؤمن بالله ويكذب بما جاء به وبلغه سائر الأنبياء عليهم السلام.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.