في رحاب القرآن:تفسير سورة “الليل”

في رحاب القرآن:تفسير سورة “الليل”


بسم الله الرحمان الرحيم يقول الله تعالى “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)” صدق الله العظيم سورة “والليل” من السور المكية تبدأ السورة على غرار مثيلاتها بالقسم الإلهي ولا يقسم الله إلا بعظيم ذي شأن فيه لفت للانتباه وفيه دعوة للتفكير والتدبر في آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته والدالة على وجوده إذ كما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد. (والليل إذا يغشى) أي يغطي وينتشر على الأرض وعلى كل الخلائق، والقادر على أن يجعل الليل يغشى هو الله سبحانه وتعالى فهو الذي "يقول للشيء (كن فيكون) انه سبحانه وتعالى من له كل صفات الكمال، كمال مطلق لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء في الأرض ولا في السماء. فهذه الظلمة التي تغشى الناس وتغشى الأرض ليلا لا يدرك قيمتها وأهميتها في تحقيق الراحة والطمأنينة والسكينة إلا من يفقدها، وهناك في مناطق من شمال وجنوب الكرة الأرضية حيث يمتد النهار طويلا يحس من يعيش هناك أو من يصل إلى هناك بنعمة الظلمة التي تقابل النور والذي هو أيضا نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى. (والنهار إذا تجلى) أي إذا ظهر ضوء النهار والذي يظهره هو الله سبحانه وتعالى ولو شاء الله لجعل الليل سرمدا فانه سبحانه وتعالى لا يسال عما يفعل ولكنه جل وعلا يغمرنا بالطافة وتحف بنا رحماته ويشترك في التمتع بما وهب الله وأعطى وتكرم الكافر من عباده ومن امن ويتمتع بهذه النعم (الظلمة والنور وغيرهما) من أطاع الله ومن عصاه فسبحانه ما أحلمه وما أكرمه. قوله تعالى (وما خلق الذكر والأنثى) قسم آخر من الله سبحانه وتعالى، قسما بمن خلق الذكر والأنثى وهو الله ومن سوى الله يقدر على الخلق من العدم وخلق الذكر والأنثى في زوجية هي أساس لبقاء الحياة الإنسانية في هذا العالم، إنها زوجية لها حكمة وغاية فيها الصلاح والفلاح للإنسان وفيها حياته هذه الحياة التي يسعى الإنسان الظلوم الجهول إلى أن يغيرها (تبديل خلق الله كما يحاول البعض أن يفعله البعض عن طريق الاستنساخ الذي بدأ بالنعجة “دولي” ولا ندري إلى أين سيصل به أصحابه ممن لا يتقيدون بالقيم أو الأخلاق!!). قوله تعالى (إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم ومعناه أن عملكم مختلف فأعمال الناس شتى وبعيدة عن بعضها البعض فبعض الأعمال هي من قبيل الإيمان والبعض الآخر من قبيل الكفر. يقول القرطبي في تفسيره لهذه السورة (أي فمنكم مؤمن وبر وكافر وفاجر ومطيع وعاص) ويمكن أن يكون معنى شتى أي (لمختلف الأخلاق فمنكم راحم وقاس وحليم وطائش وجواد وبخيل) وكل ذلك تحتمله الآية ولا تضيق به. قوله تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) فأما من كان من عباد الله يعطي بمعنى يبذل المعروف ويفعل الخير فينفق ويتصدق كما كان الحال بالنسبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه (والآية تخصه وتتجاوزه إلى كل من سلك مسلكه وسار على نهجه) فمن أعطى (لوجه الله خالصا) واتقى ما حرم الله واجتنبه ظاهرا وباطنا وكان مصدقا بالحسنى والإخلاف من الله لما أنفقه في سبيله (فسنيسره لليسرى) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول احدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) مسلم. وقيل أن الحسنى التي يصدق بها المؤمن هي لا اله إلا الله (فسنيسره لليسرى) سيرشده ربه إلى كل ما فيه الخير والصلاح وقيل لليسرى (للجنة). قوله تعالى (وأما من بخل واستغنى) من بخل بما أعطاه الله وقيل من بخل بماله واستغنى عن ربه (وكذب بالحسنى) بالخلف وقيل كذب بالجنة أو بلا إله إلا الله (فسنيسره للعسرى) سنسهل عليه طريق الشر وللقرطبي كلام نفيس في معنى الجود والبخل لا بأس من إيراده هنا تعميما للفائدة حيث يقول (إن الجود من مكارم الأخلاق والبخل من أرذلها وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء فكل من استفاد بما يعطي أجرا فهو الجواد وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا وإنما استوجب به ذما فليس بجواد وإنما هو مسرف مذموم وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين وأوجب الحجر عليهم ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما واستوجب به حمدا فهو من أهل الرشد الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم) الصفحة 85 ج20 من الجامع لأحكام القرآن ومن لطائف التفسير قوله (فسنيسره للعسرى) سنهيئه والعرب تقول: قد يسرت الغنم إذا ولدت أو تهيأت للولادة. (وما يغني عنه ماله إذا تردى إنا علينا للهدى وان لنا للآخرة والأولى). إن المال لن يغني ولن ينفع من بخل به إذا هو تردى بمعنى مات (وان ليس للإنسان إلا ما سعى) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له) فما الذي يغني من دخل نار جهنم. قوله تعالى (إن علينا للهدى) على الله سبحانه وتعالى أن يبين لعباده طريق الهدى من طريق الضلالة (وان لنا للآخرة والأولى) فالآخرة أي الجنة والأولى هذه الدنيا فهما لله تعالى. قوله تعالى (فأنذرتكم نارا تلظى يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) لقد حذر الله عباده عن طريق الأنبياء والمرسلين من نار جهنم التي لن يعذب بها ولن يجد حرها إلا من هو شقي، المكذب لنبي الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واعرض عن الإيمان والآية كما هي كل آيات الكتاب العزيز إلا ما قل منها تخص بعض الأفراد الذين كانوا في زمن التنزل وتعم كل من كان على شاكلتهم إذ (العبرة بعموم اللفظ). قوله تعالى (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ما له يتزكى) سيكون بعيدا عن نار جهنم التقي الذي يخاف الله والذي ينفق ماله في سبيل الله خالصا لوجهه الكريم رغبة في تزكيته وتطهيره. قوله تعالى (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) إن التقي الذي يخاف الله مخلص في إنفاقه وبذله (لا تدري شماله ما أنفقت يمينه) (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) لا يبغي هذا المؤمن إلا وجه الله وكفى بذلك جزاء ومن كانت هذه حاله فسيرضيه ربه الرضا الكامل الشامل في الدنيا والآخرة.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.