في رحاب القرآن:تفسير سورة “الكهف”

في رحاب القرآن:تفسير سورة “الكهف”


سورة “الكهف” مكية إلا “واصبر نفسك...” وهي سورة عظيمة الشأن مثلها مثل كل سور القرآن الكريم وقد وردت في فضيلتها عديد الأحاديث النبوية الشريفة منها: * عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف (السورة) وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن) الصحيحان. * وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ولفظ الترمذي (من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف) وقال حسن صحيح. * وعن سهل بن معاذ بن انس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا مابين السماء والأرض) انفرد به احمد. * وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له مابين الجمعتين) * وعن أبي سعيد عن الخدري رضي الله عنه انه قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين) * وعن أبي هاشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورا يوم القيامة). * وعن علي ابن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعا (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وان خرج الدجال عصم منه). هذه مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة أوردتها كتب السنة تعاضد بعضها البعض وتبين فضيلة هذه السورة المباركة (سورة الكهف) وما أعده الله تبارك وتعالى من اجر وثواب وما وعد به عباده المؤمنين الذين يقرأون هذه السورة أو بعضا من آياتها في الأول وفي الآخر في يوم الجمعة من عصمة وحفظ وما يؤتيه لهم من نور هو من نور القرآن الكريم ومن نور سورة الكهف. ولا يخفى ما في هذه الطريقة (الترغيب بالوعد بالجزاء الأوفر من عند الله) من دفع للمسلم بان يكون حبله موصولا بكتاب الله العزيز وان لا يكون القرآن مهجورا من قبله. وهذه الأحاديث التي أوردناها في فضيلة هذه السورة (الكهف) افتتح بها الحافظ ابن كثير في تفسيره الجليل (تفسير القرآن العظيم) بيانه للمعاني الواردة في سورة الكهف. وهذا المنهج الذي توخاه الحافظ ابن كثير هو المنهج الأمثل والأصوب وهو الذي تلقته الأمة بالقبول ذلك إن اصح تفسير لكتاب الله هو تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالحديث الشريف وهل هنالك اعلم من الله بما في كلامه جل وعلا من المعاني فمنه سبحانه وتعالى نزل لعباده؟ وهل هنالك بعد الله من هو اعلم بمراد الله في كلامه العزيز من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل هذا القرآن عليه الصلاة والسلام ومن أمر ببيانه للناس (لتبين للناس ما نزل إليهم) فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) علمه ربه ما لم يكن يعلم (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) يقول الله تبارك وتعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) ). افتتحت سورة الكهف بالحمد لله والثناء عليه، الحمد كل الحمد لله وحده، هذه الصيغة التي وردت في مفتتح عديد السور ومنها سورة الفاتحة لقد انزل الله في هذه السورة (الكهف) و(الفاتحة) وغيرهما الصيغة المثلى الكاملة المستغرقة للحمد لما علم عجز عباده عن حمده جل وعلا يقول الحافظ ابن كثير (..انه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها فانه المحمود على كل حال وله الحمد في الأولى والآخرة ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه فانه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم من الظلمات إلى النور حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين بشيرا للمؤمنين) انظر الصفحة 70 من الجزء الثالث من تفسير ابن كثير. لا اعوجاج ولا زيغ ولا ميل بل كتاب مستقيم معتدل منزل من عند الله وهذا الكتاب احتوى النذير والوعيد الشديد بالعقوبة العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة لمن كفر به واعرض عن نهجه القويم وصراطه المستقيم. ولكن هذا القرآن هو بشرى للمؤمنين جزاء إيمانهم وعملهم الصالح فلهم ثواب من الله سبحانه وتعالى ويخلدهم ربهم في الجنة إلى ابد الآبدين إن القرآن الكريم ينذر أولئك الذين افتروا على الله الكذب وأشركوا به من مشركي العرب الذين قالوا نعبد الملائكة وهم بنات الله ويشمل هذا الإنذار الشديد كل من يقول قولهم ويعتقد معتقدهم الباطل. ومن أين لهم أن يقولوا ذلك؟ ما أكبرها من كلمة فليس لهم عليها البرهان والدليل سوى الكذب والافتراء والاختلاق على الله ما لم يقله وما لا يليق بذاته سبحانه وتعالى! ويسلي المولى جل وعلا رسوله الكريم الذي يحزنه مثل هذا الافتراء والقول الباطل ويؤسفه ويتأثر له التأثر الكبير ولكن الله سبحانه وتعالى يقول (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) فالله تبارك وتعالى يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بان هذه الدنيا بكل ما فيها ما هي إلا عروض زائلة فانية وهي دار ابتلاء وامتحان فلا ينبغي للمؤمن إن يتأثر لإقبالها على من يعرض عن الطريق المستقيم بل هي الفتنة يعجل بها الله إليهم وهو سبحانه وتعالى ناظر ما سيفعل فيها( الدنيا) وبها (أيهم أحسن عملا) فمن فتن بها هلك وويل له من عذاب ربه الشديد ومن لم تفتنه وأحسن فيها العمل فان الله يجازيه على عمله الصالح الجزاء الأوفى فالله تبارك وتعالى سيجعل الدنيا (كل ما على الأرض) صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به فكل من عليها وما عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. ثم يقول جل من قائل ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)). أوردت هذا المقطع على طوله حفاظا على وحدته وقبل أن أتوقف عند بعض جوانبه أشير إلى أن بعض السور والآيات وردت مقترنة بمناسبات أو وردت في شكل إجابات عن أسئلة ألقيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما اصطلح عليه العلماء بأسباب النزول وهو مما يساعد على فهم مراد الله وان كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فعن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط إلى أحبار ويهود المدينة فقالوا لهم سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته واخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى أتيا المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فان أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه وسلوه عن الروح ما هو؟ فان أخبركم بذلك فهو نبي فأتبعوه وان لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم فاقبل النضر وعقبة حتى قدما قريش فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد امرنا أحبار اليهود إن نسأله عن أمور فاخبروهم بها فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له ما قاله لهم أحبار اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (غدا أخبركم عما سألتم عنه ولم يستثن) فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى ارجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه حتى حزن رسول الله صلى الهه عليه وسلم حيث مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبة إياه على حزنه عليه وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقوله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية. إن أصحاب الكهف الذين وقع السؤال عنهم وعن أمرهم ليسوا بالأمر العجب فالله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، إن الله خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء لا يعجزه أمر أصحاب الكهف. فقد فر هؤلاء الفتية بدينهم من قومهم، فروا إلى كهف آووا إليه وسالوا ربهم الرحمة بهم فسترهم الله عن القوم الكافرين وجعل عاقبتهم رشدا لقد ناموا سنين كثيرة ثم بعثهم الله ولا يعلم إلا هو سبحانه وتعالى كم لبثوا في الكهف وهم رقود. يقص الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قصتهم العجيبة لقد آمنوا بربهم وزادهم هدى فقوى إيمانهم ويقينهم فيه وربط على قلوبهم فثبتهم وصبرهم على ما كانوا عليه من حياة النعيم ورغد العيش، لقد آثروا ما عند الله واعرضوا عن قومهم عندما رأوهم يعبدون غير الله الذي خلقهم وسواهم، لقد جمع بين هؤلاء الفتية الإيمان بالحق والصدق، لم يجمع بينهم إلا الإيمان بالله والإعراض عما يغضبه من الكفر وكان إصرارهم شديدا على الثبات في طريق الإيمان غير عابئين ولا مكترثين بما يعبده قومهم من أوثان لقد اعتزلوا قومهم وآووا إلى الكهف، تنادوا إلى اللجوء إلى الكهف فكان الله حافظا لهم وراعيا لهم وحارسا لهم (وآووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) وتمثل هذا المرفق في موقع هذا الغار بحيث تشع فيه الشمس ذات اليمين وذات الشمال عند الشروق والغروب وهم في داخله لا تمسهم أشعة الشمس فتحرقهم فذلك من قدرة الله ولطفه وتلك من آياته فهو الهادي لمن يريد الهداية أما من يضله الله فلن يهديه احد ثم بعث الله أهل الكهف الذين تساءلوا بعد نومهم العميق الطويل كم لبثوا؟ يوم أو بعض يوم لكنهم في الحقيقة والواقع ناموا سنين طويلة ولم تدلهم على هذه الحقيقة إلا العملة التي بعثوا بها احدهم فإذا هي عملة قرون مضت وذلك عند إرسالهم لأحدهم كي يشتري لهم طعاما أمروه بالتلطف والتخفي ظنا منهم إن من فروا من بطشهم وكفرهم لا يزاولون على قيد الحياة فإذا بهم قد حل محلهم قوم آخرون جاؤوا من بعدهم لكنهم كانوا بالله مؤمنين، لقد عثر هؤلاء القوم المؤمنون على أهل الكهف وعرفوا أخبارهم وقد دل بعضهم بعد نومهم العميق وبعثهم من جديد أحياء لم يتبدل منهم شيء حتى يحسب من يدخل عليهم وهم في الغار كأنهم في سبات فحتى أعينهم لم تكن مغمضة كليا من يدخل عليهم بفزع. واتخذ عليهم قومهم مسجدا بعد إن تساءلوا وتجادلوا حول أمرهم دون إن يصلوا إلى الخبر اليقين فيما يتعلق بعددهم أهم أربعة أم خمسة أم ستة أم سبعة الله هو العليم بعدتهم فلا يعلمهم إلا القليل من عباد الله. ويضمن المولى سبحانه وتعالى الآيات التي تقص قصة أهل الكهف ما ينبغي إن يتأدب به المسلم في كل أحواله مع ربه (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا إن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى إن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) لقد لبث أهل الكهف ثلاث مائة وازدادوا تسعا الله اعلم بما لبثوا في الكهف رقودا فالله هو وليهم ومولاهم لا يشرك المولى في حكمه أحدا، ثم يتوجه المولى سبحانه وتعالى لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بالأمر الذي هو له تشريف ولنا معاشر المؤمنين تكليف (وأتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) صدق الله العظيم فمن وفقهم الله وهداهم إلى صراطه المستقيم فهم يدعون ربهم صباح مساء لا يريدون إلا وجهه هؤلاء هم الذين ينحاز إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الذين يحبهم الله ورسوله وليس غيرهم ممن أغوتهم الدنيا أو أطغتهم المادة فأعمت أبصارهم وبصائرهم لقد اتبعوا أهواءهم فأضلتهم لقد تفرط أمرهم وخاب صنيعهم فويل لهم من عذاب ربهم الشديد. يقول الله تبارك وتعالى ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)). يأمر الله تبارك وتعالى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام بان يقول للمشركين المنكرين لوحدانية الله بان ما جاءهم به هو الحق من الله سبحانه وتعالى فهو وحده مصدر الحق وهو حق لا يقبل التغيير أو التبديل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو مبلغ عن ربه لما أوحى به إليه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ومن يكفر فما عليه إلا إن يتحمل تبعات كفره وضلاله لقد أعد الله للكافرين نار جهنم وهي نار محيطة بهم من كل جانب، ونار جهنم شديدة الحرارة، يشتد عطش من في النار فيسألون الماء فلا يجابون إلا بماء كالمهل وهو الماء المعكر المذاب من الحديد والرصاص يشوي الوجوه انه بئس الشراب لا يزيد العطشان إلا عطشا، إن جهنم بئس المنزل والمقام وكل هذا العذاب أعده الله لمن يكفر بما انزل على رسله وأنبيائه عليهم السلام فيؤثر هواه والإخلاد إلى الدنيا الفانية وحطامها الزائل ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فان الله لا يضيع اجر من أحسن عملا (إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين) على إطلاق كلمة الإحسان التي تشمل فيما تشمل البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله ولكنها تتجاوز ذلك إلى كل عمل صالح . إن هؤلاء المحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا أعد الله لهم جنات عدن يقيمون فيها إقامة دائمة لا تعرف النهاية والحد. يجري الله لهم الأنهار من تحت غرفهم التي ينزلون فيها في الجنة. إن الله تبارك وتعالى سيجعل لأهل الجنة أساور وهي ما يلبس في الزند من اليد وهي في الدنيا من زينة الملوك ويلبسهم ربهم ثيابا خضرا من الحرير الرقيق (السندس) وما خشن من الحرير (الإستبرق) لون ثيابهم الأخضر وهو أجمل الألوان وأشدها راحة في العين. إن أهل الجنة يتكئون على أسرة ذات وسائد وكل ذلك تنعيم لهم من ربهم الذي وعدهم وهو الذي لا يتخلف وعده ما أحسنه من نعيم وما أشد راحة ذلك المتكأ. ثم يقول جلّ من قائل ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) ). تنتقل سورة الكهف إلى سياق آخر هو سياق ضرب الأمثال للناس من واقع الحياة ومن أخبار من سبق من الأمم وهو منهج قرآني فريد في الإقناع وفي إقامة الحجة على الناس لأن الحياة هي الحياة والناس هم الناس منهم الكافر ومنهم المؤمن. فهذان الرجلان سواء كانا من الأمم السابقة أو من العرب أهل مكة. إنهما رجلان أحدهما كافر بربه وبما انعم به عليه من خيرات فهو لا يعتبر ولا يتدبر ولا يزيده النعيم إلا كفرا وطغيانا كأنه لا يعقل والآخر عاقل شاكر لأنعم ربه مكتف بما أعطاه ربه. لقد وهب الله للرجل الكافر جنتين (حقلين بما فيهما من أشجار) وجعل الله له في الجنتين كل أصناف الثمار وحف الجنتين بالنخيل والأعناب وجعل بينهما الزرع وآتت الجنتان أكلهما كل ذلك عطاء من الله وجودا وكرما منه سبحانه وتعالى وذلك على غير معتاد الإثمار الذي يكون سنة ولا يكون أخرى وفجر الله لصاحب الجنتين أنهارا وعوض أن يدفعه هذا الكرم الإلهي إلى الإيمان بربه والشكر له على نعمه وعطائه فان هذا النعيم دفعه إلى التباهي والخيلاء والإخلاد إلى الدنيا لقد أصبح يتباهى بماله وولده -على طريقة الغافلين- على صاحبه (أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا) ودخل جنته بكفره وعجبه وخيلائه كما لو أنه هو منشئ تلك الجنات ومجرى تلك النعيم إن كفره وظلمه لنفسه دفعه إلى القول المنكر (ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن ساعة قائمة) سبحان الله وهل دام غيرها من النعيم الذي أجراه الله على عبده. ويذهب أبعد من ذلك فيدفعه غروره إلى الاعتقاد انه سيكون له نصيب عندما يرد العباد إلى ربهم للحساب ليجازيهم عما قدمت أيديهم في الدنيا، يا لها من مغالطة للنفس ويا له من غرور وقع فيه هذا المسكين ويقع فيه أمثاله ممن يسيرون سيرته في الحياة الدنيا فيكفرون بربهم وتطغيهم الحياة الدنيا ونعيمها ألا فيعلم هؤلاء الذين ضلوا سواء السبيل انه ليس لهم في الدار الآخرة إلا العذاب المقيم جراء كفرهم وطغيانهم يقول (ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) أما صاحبه العاقل الرصين المؤمن بربه المقيد لنعمه بالشكر فانه يذكره بالحقائق الناطقة (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم سوّاك رجلا) انه سؤال استنكاري فيه الحجة المقنعة المبكتة، أنسى هذا الغافل الكافر مم خلق إن أصله من تراب وهو آيل إلى التراب ومن التراب ترعرع ليصبح رجلا سويا كل ذلك بقدرة الله وجميل صنعه ولطيف عنايته ورعايته وتسخيره. إن صاحب هذا الرجل الكافر عاقل لا يشرك بالله أحدا وكيف يشرك بالله من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فهو سبحانه وتعالى الرب المعبود بحق لا اله غيره. كان على هذا الرجل الكافر بربه غير المعترف بنعمه ان يقول وهو داخل لجنته وناظر في ما أنعم به الله عليه ان يتحرك لسانه ليعبر عن الحمد والشكر لله (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) وهما كلمتان عظيمتان تنمان عن إيمان قوي. فالله تبارك وتعالى قادر على أن يعطي لهذا الرجل المؤمن خيرا من جنة هذا الكافر وهو سبحانه وتعالى قادر على أن يرسل صواعق على هذه الجنة التي أخلد إليها صاحبها واغتر بها وظن أنها لن تبيد فتصبح أرضا لا تنبت ملساء تزلق الأقدام الماشية عليها ويمكن أن يغور ماؤها فلا يستطيع صاحب الجنة إخراجه وكان الأمر كما يتوقع حيث اهلك الله الأشجار والثمار التي أصبحت أثرا بعد عين فأصبح صاحبها الكافر بربه المخلد إلى دنياه (يقلب كفيه على ما انفق فيها وهي خاوية على عروشها) فارغة من كل شيء كان فيها قبل حين (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) كان عليه أن لا يشرك بربه قبل هذا، انه نادم ولات ساعة مندم انه لم يجد أحدا بجانبه من أولئك الذين اغتر واعتر بهم بالأمس وتباهى بهم على صاحبه المؤمن العاقل (ولم تكن فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) ومن يقدر على نصرته فكل نفس بما كسبت رهينة. فالنصرة من الله وحده (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) فهو سبحانه وتعالى ولي عباده المتقين هو الذي يتولاهم. ثم يقول جل من قائل (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)). إن القرآن الكريم مليء بالأمثال التي يضربها الله للناس لعلهم يهتدون ويعتبرون ومن الأمثال التي يضربها الله تبارك وتعالى لعباده حقيقة الحياة الدنيا التي يغترون بها إنها مثل الماء النازل من السماء على الأرض فتنبت بهذا الماء من كل الثمرات لكنه لا يلبث أن يصبح هشيما تذروه الرياح، كالغبار فالله على كل شيء قدير. إن المال والبنين من زينة الحياة الدنيا بل هما زينتها ولكنهما مثل الدنيا لا يغتر بهما إذ لا يسخرهما المؤمن إلا لطاعة الله التي هي أبقى. والباقيات الصالحات خير عند الله وعليها من الله الثواب العميم، قد فسرت الباقيات الصالحات بما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما الباقيات الصالحات؟ قال التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله) أخرجه احمد في المسند. ويعلم الله عباده بأنه عندما تقوم الساعة فان هذه الجبال الثابتة يسيرها الله كما يسير السحاب وتبرز الأرض بزوال ما عليها من بنيان وأشجار وغيرها ويحشر الله كل الناس فلا يبقى منهم احد ويعرضهم عليه صفا إنهم يأتون لربهم كما خلقهم أول مرة حفاة عراة وقد زعم الكافرون المعاندون أنهم لن يبعثوا وليس لهم موعد يقفون فيه بين يدي الله للحساب، ويضع الله لكل واحد صحيفته بين يديه، السعيد صحيفته في يمينه والشقي صحيفته في شماله. إن المجرمين في ذلك اليوم في خوف شديد وفي هلع ورعب فسيفضحهم ربهم إنهم يصرخون لما في صحفهم من سيئات اجترحوها في الدنيا، إنهم يجدون في صحفهم الكبائر والصغائر (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) تعالى الله عن أن يظلم عباده فلا يعاقب أحدا على ذنب لم يقترفه ولم تقدمه يداه وهو سبحانه وتعالى لا ينقص من اجر فاعل الخير. إن الشيطان الذي فسق عن ربه وامتنع عن السجود لآدم غير جدير بالإتباع أو أن يتخذ هو وذريته أولياء من دون الله إنهم عدو مبين لبني آدم وهم بئس البديل للظالمين الكافرين بربهم المخالفين لأمره. ثم يقول جل من قائل (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)). تمضي الآيات في إقامة الحجة والإقناع بكل برهان ودليل فالله الذي يدعو الأنبياء والمرسلون إلى الإيمان به هو وحده خالق السماوات والأرض لم يشهد هذا الخلق أحدا من العباد إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم ولا يمكن أن يجعلهم الله عضدا له ويوم القيامة يدعو الله الكافرين المشركين كي ينادوا شركاء الله الذين زعموا أنهم مع الله ولا يستجيب منهم احد ويرى المجرمون النار رأي العين ويتيقنون أنهم سيلقون فيها، لقد صرّف الله في هذا القرآن وضرب من الأمثال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . فالناس لا يؤمنون إلا عندما يرون العذاب أما قبل ذلك فإنهم يكذبون الرسل ويكفرون بالله ولا تقنعهم حجة ولا برهان وعندما يرون العذاب أمامهم هنالك يصدقون إن الله تبارك وتعالى يرسل المرسلين مبشرين بالجزاء الأوفر في الجنة للمؤمنين ومنذرين للكافرين بالله بالعذاب الشديد في نار جهنم. إن الكافرين يجادلون بالباطل ليدحضوا الحق إنهم يستهزؤون بآيات الله في الأنفس وفي الكتب وفي الآفاق المحيطة فيعرضون عنها وينسى الإنسان ما قدمت يداه، إن الله تبارك وتعالى جعل على قلوب هؤلاء الكافرين أغطية تحول بينهم وبين الاقتناع وجعل في آذانهم ثقلا يجعلهم لا يسمعون لقد طبع على قلوبهم فكفروا به. إن الله تبارك وتعالى هو الغفور ذو الرحمة فرحمته وسعت كل شيء انه سبحانه يمهل عباده لعلهم يتوبون ويهتدون فلا يعجل لهم بالعذاب وانه لقادر على ذلك لو شاء ولكنه رحمان رحيم بعباده انه لو شاء لعجل لهم بالعذاب فهم يستحقون ذلك بكفرهم ومعاصيهم ولكنه سبحانه وتعالى جعل للحساب موعدا معينا لن يتخلف. قال الله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) ). هذا مقطع آخر من سورة الكهف تجمع بين آياته وحدة الموضوع الذي تتطرق إليه إنها قصة من قصص القرآن الكريم المليئة بالعبر والمواعظ والدروس والتي تزيدها الملابسات المحيطة بها وضوحا ورسوخا وتجعل الاعتبار بها واخذ الموعظة منها يتحققان. وتقول كتب التفسير التي تعتمد المأثور والأخبار إن سيدنا موسى عليه السلام كان ذات يوم يخطب في جمع من بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه وتعالى فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك قال موسى: يا رب وكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون عليه السلام حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما فاضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله سربا وامسك الله عن الحوت جري الماء فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه إن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغداة قال موسى لفتاه (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه (أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان إن أذكره واتخذ سبيله في البحر سربا) قال فكان الحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا فقال (ذلك ما كنا نبغي فارتدا على أثارهما قصصا) قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال أنا الخضر واني بأرضك فقال أنا موسى فقال موسى نبي إسرائيل ؟ قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا (قال انك لن تستطيع معي صبرا) يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه قال موسى (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) قال له الخضر (فان اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منك ذكرا) انظر الصفحة 91 من الجزء الثالث من تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير. أوردت ما يمكن الانطلاق منه في تفسير هذا المقطع من سورة الكهف (قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام) وهي قصة مليئة بالعبر والمواعظ والدروس تذكر ببعض الحقائق الإيمانية الأساسية والتي تأتي في طليعتها إن العليم بحق والذي لا حدّ لعلمه إنما هو الله سبحانه وتعالى فالجواب الذي ينبغي إن يكون حاضرا في كل ذهن وينطق به كل إنسان وهو ما يقتضيه تمام الأدب مع الله هو أن يقول العبد المؤمن دائما وأبدا (الله اعلم) إذ (فوق كل ذي علم عليم) ومهما كان علم العبد حتى لو كان نبيا ورسولا فان علمه يظل محدودا قليلا جدا بالنسبة لما لا يعلمه وهذا هو ما عناه الله بقوله في كتابه العزيز (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) إن لسان الحال بالنسبة للمؤمن هو قوله جل من قائل (وقل رب زدني علما) وكثيرا ما يتعرض الأنبياء والمرسلون عليهم السلام إلى الامتحان تمحيصا لهم حيث يتخذون كنماذج يقتدي بهم غيرهم، فغير الأنبياء والمرسلين ينبغي إن تكون ألسنتهم وأحوالهم معبرة عن محدودية علمهم ومعرفتهم مهما كانت عميقة كبيرة واسعة. لقد أمر الله نبيه ورسوله موسى عليه السلام بان يذهب فيتلقى عمّن هو دونه درجة إذ الخضر عليه السلام هو عبد صالح ولذلك قال الخضر لموسى عليهما السلام (إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا اعلمه) وعلمهما بالنسبة لعلم الله هو كمثل قطرات من ماء البحر التي أخذها الطائر بمنقاره. وتواضع سيدنا موسى عليه السلام وامتثل لأمر ربه وبدت واضحة عليه علامات التأدب مع معلمه، لقد كان مستعدا للوفاء بكل ما اشترطه عليه المعلم الخضر عليه السلام، لقد أبدى هذا الاستعداد وتعهد به ولكنه لم يستطع الوفاء به لما رآه ظاهرا مما اعتبره غير معقول! ولا مقبول! والأمر كذلك عندما نحكم بالظواهر ورغم إن الخضر عليه السلام حذر سيدنا موسى عليه السلام من أنه لن يستطيع الصبر (انك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟) وفعلا فان سيدنا موسى عليه السلام لم يصبر إلا على ثلاث حالات كان في نهايتها مقتنعا بأنه لم يستطع إن يوفي بما تعهد به للخضر وان الخضر معذور في مفارقته. والعبرة من هذه القصة وأحداثها التي عاشها سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر هو أننا مهما علمنا من ظواهر الأشياء والأمور فان بواطنها وما لا نراه منها مما هو مغيب اختص به الله سبحانه وتعالى وعدم علمنا هذا يجعلنا في كثير من الأحيان نخطئ ونجانب الصواب ولكننا كما ورد في الحديث الشريف (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) وهذا ما سيقتنع به سيدنا موسى عليه السلام لماذا فعل الخضر ما فعل مما استعجل بنقده فيه ومؤاخذته عليه سيدنا موسى عليه السلام. بدءا بركوب سفينة هي لمساكين يعملون في البحر وقد اركبوهما بدون مقابل ومع ذلك فان الخضر عليه السلام خرق لهم هذه السفينة مما يبدو ظاهرا انه ظلم وعدوان ومقابلة للاحسان بالإساءة ولكن في الحقيقة والواقع وفي العاقبة فان ما فعله الخضر هو عين الإحسان لأصحاب السفينة لأنه بهذا الصنيع الذي ظاهره الشر أنقذ السفينة من أن يغتصبها الملك منهم وما عليهم بعد ذلك إلا أن يصلحوا هذا الخرق البسيط وكذلك الأمر بالنسبة للغلام الذي ظاهره البراءة فان الله تبارك وتعالى العليم الحكيم اعلم الخضر إن هذا الغلام سيتسبب لأبويه في الفتنة وغضب الله جراء كفره وان الله بصنيع الخضر به (قتله) قد أراحهما منه وسيبدلهما خيرا منه.. أما الجدار الذي قام الخضر وسيدنا موسى عليهما السلام بإصلاحه لأهل القرية الذين أبوا أن يضيفوهما فان هذا الجدار كان سيسقط وانه لغلامين يتيمين لا يزالان صغيرين وانه لهما تحت هذا الجدار كنز (قيل انه هذا الأب هو الجد السابع لهذين الغلامين، وانه كان صالحا وان الله تبارك وتعالى حفظ لابنيه اليتيمين كنزهما ببركته وقيل انه مكتوب في لوح من ذهب (بسم الله الرحمان الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا اله إلا الله محمد رسول الله). فالله تبارك وتعالى سخر عبدا صالحا هو الخضر عليه السلام.. ونبيا رسولا هو موسى عليه السلام.. ليكونا في خدمة غلامين يتيمين كل ذلك مجازاة لأبيهما (جد سابع) على عمله الصالح فالله تبارك وتعالى لا يضيع اجر المحسنين، انه يحفظهم في أنفسهم وفي أولادهم في حياتهم وبعد مماتهم، انه العمل الصالح يعمله العبد المؤمن فينال عليه من الله سبحانه وتعالى الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة. وبعد أن بيّن الخضر عليه السلام لسيدنا موسى عليه السلام لماذا فعل ما فعل مما لم يستطع في كل مرة سيدنا موسى عليه السلام أن يصبر عليه لما رآه مخالفا وغير معقول ولا مقبول ظاهرا قال الخضر عليه السلام (وما فعلته عن أمري ذلك ما لم تستطع عليه صبرا) إن هذه القصة مليئة بالعبر والمواعظ والدروس نحتاج إليها جميعا في حياتنا فنحن تغلب علينا العجلة ويغلب علينا الضعف لا نصبر ولا نتحمل ولا نقبل الانتظار حتى ولو لم يكن لمدة طويلة إن الإنسان عجول، وكثيرا ما يندم على عجلته وتسرعه وعدم صبره. لم يستطع سيدنا موسى عليه السلام أن يصبر أكثر على ما رآه من سيدنا الخضر عليه السلام ولو صبر أكثر لتعلم وتعلمنا أكثر مما لم نحط به خبرا مما استأثر به الله في علم الغيب ومما لا نتبين حكمته إلا بعد وقوعه إلى نهايته فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن سألتك عن شيء بعد هذا فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا) إن الخضر هذا الذي أمر الله سيدنا موسى بان يذهب للقائه. ويتلقى عليه ما لا يعلمه (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) اختلف حوله المفسرون بعضهم قال انه نبي ورسول وقال البعض الآخر انه عبد صالح وحوله وردت حكايات كثيرة فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخضر قال (إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء) انه عبد صالح علمه الله من لدنه علما. ثم يقول جل من قائل (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) ح�



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.