في رحاب القرآن تفسير سورة “العلق”

في رحاب القرآن تفسير سورة “العلق”


بسم الله الرحمان الرحيم يقول الله تبارك وتعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)”صدق الله العظيم سورة العلق من السور المكية هي أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سورة فيها إعلامه عليه الصلاة والسلام بأنه نبي الله ورسوله وما كان قبل ذلك يعلم ذلك ولا هو ينتظره. كان يتعبد عليه الصلاة والسلام في غار حراء بمكة المكرمة على الديانة الإبراهيمية التي تأبى الشرك بالله وعبادة الأصنام وتلك حال كل الأنبياء عليهم السلام قبل أن يبعثهم الله لأقوامهم أنبياء ومرسلين. * قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة فجاءه الملك فقال: “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم” رواه البخاري * وفي الصحيحين عنها (السيدة عائشة) قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. هذا هو حديث بداية الوحي وهو زيادة على ما فيه من بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم فان فيه من الفوائد الأخرى ما لا يخفى أن الوحي بدأ بأمر إلهي، أمر بالقراءة وما أدراك ما القراءة فالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي للقراءة المنزلة الأولى ويقدمها على كل الأوامر الأخرى، انه أمر بات بالقراءة رغم أن المأمور وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لا يحسن القراءة والكتابة والله تبارك وتعالى الآمر بالقراءة يعلم ذلك من نبيه ورسوله فهو سبحانه وتعالى من سيعلمه (بقوله كن)، سيعلمه ما لم يكن يعلم، انه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. انه علم من عند الله سيصبح به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحي يوحى). وسبل الوحي هي أما رؤيا صادقة كفلق الصبح أو بواسطة ملك (جبريل عليه السلام) أو يكلمه الله تكليما وفي أميته رسول الله صلى الله عليه وسلم سد الباب أمام كل التقولات والافتراءات إذ لو كان يحسن القراءة والكتابة لقيل أن ما جاء به منقول عما سبقه من الصحف والكتب التي أنزلت على الأنبياء والمرسلين السابقين عليهم السلام. في أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقراءة ومن ورائه أمته ومن يتبعون دينه رفع من شأن القراءة والعلم فالعلم هو سبيل الإحراز على مرضاة الله وتحقيق التمكين وعلو الشأن في هذه الحياة الدنيا. (اقرأ باسم ربك) جاء الأمر بالقراءة مقيدا بالقراءة باسم الله، فالقارئ باسم الله المستعين به سبحانه وتعالى وطالب الفتح منه هو لا شك محصل للعلم الصالح المفيد المقرب من الله المبتعد بصاحبه عن كل ما يغضب الله مما يمكن أن يلحق أدنى ضرر بالنفس والناس. (خلق الإنسان من علق) الإنسان أي بني آدم، العلق هو الدم الجامد، والعلق هو المرحلة الثانية للخلق بعد مرحلة النطفة التي تصير علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الله الروح ويكتب الملك الرزق والأجل في نهاية الأربعين الثالثة. انه توجيه من الله تبارك وتعالى لعباده إلى أصلهم الأول الذي يشتركون فيه جميعهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم تنفخ فينا الروح التي هي من أمر الله، هذا الخلق الإلهي بهذه الأطوار هو الذي انتهى إلى تشخيص مراحله العلم الصحيح بما توصل إليه من وسائل متطورة وهذا هو الذي لفت أنظار العلماء من المسلمين ومن غير المسلمين الذين كان ذلك دافعا لهم للتسليم بان القرآن الكريم هذه المعجزة الخالدة يستحيل أن يكون من صياغة وتأليف محمد عليه الصلاة والسلام، ليس ذلك في مستطاعه ولا يمكن أن يكون في مستطاع غيره في ذلك الزمن المتقدم أي قبل أكثر من أربعة عشر قرنا هذه الآيات وما شابهها هي من آيات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) اقرأ وربك الأكرم أي الحليم العفو عن جهل عباده فلا يعجل لهم العقوبة رغم استحقاقهم لها. إن الله تبارك هو الذي يعلم عباده بواسطة ما يرشدهم إليه وهو القلم. عن عبد الله بن عمر قال: يا رسول الله أأكتب ما اسمع منك من الحديث؟ قال: “نعم فاكتب فان الله علم بالقلم” وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه -فهو عنده فوق العرش- أن رحمتي تغلب غضبي) وثبت عنه عليه السلام انه قال (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة فهو عنده في الذكر فوق عرشه). (علم الإنسان ما لم يعلم) الإنسان هو آدم (وعلم آدم الأسماء كلها) وقيل هو عام لقوله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) آية 78 سورة النحل. (كلاّ) هنا بمعنى حقا، والطغيان هو العصيان الذي لا حد له إن الإنسان يطغى عندما يكون غنيا صاحب أموال طائلة والاستغناء يكون بالمال وبالجاه وبالعشيرة وهذه الحال من الطغيان يصير إليها اغلب الناس إلا من رحم ربك ممن وقاهم الله وأنار بصائرهم، إن الدنيا وفتنتها تردي وتهلك كل من يخلد إليها وتكون اكبر همه ومبلغ علمه. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام (أخوف ما أخاف عليكم من بعدي الدنيا) ولذلك قال جل من قائل (إن إلى ربك الرجعى) فمرجع الجميع هو إلى الله لا مفر من ذلك إذ كل من عليها فان ولا يبقى إلا وجه الله ثم يقول جل من قائل (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) عودة إلى أبي جهل الذي قال: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه فانزل الله هذه الآيات فهل يأمن هذا الناهي لنبي الله عليه السلام عن الصلاة عقوبة الله وشديد عذابه؟ أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالك؟ هكذا فسر هذه الآية القرطبي في قوله تعالى (أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى). انه لأمر عجيب أمر أبي جهل فهو يكذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض عن الهداية، ما أعجب أمر أبي جهل ويله ألا يعلم أبو جهل أن الله يرى ما يقوله وما يفعله، فالله تبارك وتعالى يعلم كل ما يفعل عباده يحصيه لهم ويحاسبهم عليه لن يفلتوا من عقابه وعذابه فهو سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وأبو جهل وكل من يفعل فعله ويصنع صنيعه فينهى عن الصلاة وعن الأمر بالتقوى ويكذب ويتولى فإن الله تبارك وتعالى أعد لهم شديد العقاب والعذاب والعبرة كما قلنا هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وذلك من مقتضيات أن القرآن الكريم كتاب الله لعباده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. (كلاّ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة) إن أبا جهل هذا الظالم الكافر بالله الواقف في وجه الهداية وعبادة الله إذا لم ينته عن فعله فان الله سيأخذه (لنسفعا) وسيذله الله من ناصيته، إن الله يوم القيامة سيطويه من ناصيته إلى قدميه ثم يلقي به في نار جهنم، وسفعت بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا كما بين المدلول اللغوي للسفع الإمام القرطبي وقبل السفع الضرب ويمكن الجمع بينهما الجذب والضرب. (ناصية كاذبة خاطئة) وناصية أبي جهل كاذبة خاطئة انه كاذب في قوله خاطئ في فعله. (فليدع ناديه سندع الزبانية) ليستنصر أبو جهل بأهله وعشيرته ومن اعتد بهم وظن أنهم مانعوه فبهم استغنى وبسببهم طغى، إنهم لن يغنوه ولن يمنعوه سيدعو الله بالزبانية (جمع زبن) وسموا بذلك للدفع وهم يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم وفي الإخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض فهم يدفعون الكفار في نار جهنم وقيل إنهم أعظم الملائكة خلقا وأشدهم بطشا وعن عكرمة عن ابن عباس (سندع الزبانية). واخرج الترمذي عن ابن عباس قال مر أبو جهل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام فقال: الم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد والله إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا فانزل الله عز وجل (فليدع نادية سندع الزبانية) قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته، كل ذلك أورده الإمام القرطبي في تفسيره لهذه السورة. (كلا لا تطعه واسجد واقترب) كلاّ فلن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ولن يتوقف عن عبادة الله والصلاة له-سيصلي رغم أنف أبي جهل وستجعله صلاته في اقرب موضع من الله (فاسجد واقترب) وقد ورد في الحديث الشريف (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فالسجود هو قمة العبودية لله ولأجل ذلك فهو الموضع (السجود) الذي يستحب فيه الإكثار من الدعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فانه قمن أن يستجاب لكم). * وقد روى القرطبي عن مالك ابن انس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان عن نافع عن ابن عمر قال: لما انزل الله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ (اكتبها يا معاذ فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون (الدواة) فكتبها معاذ فلما بلغ (كلا لا تطعه واسجد واقترب) سجد اللوح وسجد القلم وسجدت النون وهم يقولون: اللهم ارفع به ذكرا اللهم احطط به وزرا اللهم اغفر به ذنبا قال معاذ سجدت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد. والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.