في رحاب القرآن تفسير سورة “الضحى”

في رحاب القرآن تفسير سورة “الضحى”


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول الله تعالى (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) صدق الله العظيم سورة الضحى (مكية) قوله تعالى (والضحى والليل إذا سجى) وردت في معنى الضحى ومعنى الليل الذين اقسم بهما الله تبارك في مفتتح هذه السورة أقوال عديدة من الضحى بمعنى النهار الذي يقابل الليل إلى الضحى الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام وليلة المعراج التي عرج فيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (والليل إذا سجى) الليل إذا سكن وقيل يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى وعباده الذين يعبدونه في الليل إذا اظلم والأقوال كثيرة فيها القريب المقبول وفيها البعيد جدا ويبقى أن الله تبارك وتعالى اقسم فقال (والضحى والليل إذا سجى) ولا يقسم الله إلا بما هو لافت للانتباه فيه القدرة الإلهية تبدو لكل ذي بصيرة وجواب القسم هو في قوله جلّ من قائل (ما ودعك ربك وما قلى). والخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي صحيح البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله عز وجل (والضحى الليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) وهناك أحاديث أخرى في نفس المعنى تؤكد انقطاع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفترة شعر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحزن لم يلبث أن ذهب عنه لما عاوده نزول الوحي الذي جاءه به سيدنا جبريل عليه السلام الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئت حتى اشتقت إليك فقال جبريل: وأنا كنت أشد إليك شوقا ولكني عبد مأمور). (وما قلى) أي ما أبغضك ربك منذ احبك. يقول جل من قائل (وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) إن ما عند الله في الآخرة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خير مما جعله له في الدنيا قال ابن عباس رضي الله عنهما أُري النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتح الله على أمته من بعده فسر بذلك فنزل جبريل بقوله جل من قائل (وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) وقيل إن الذي في الآخرة مما أعده الله لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام هو الحوض والشفاعة فضلا عن قصور في الجنة لا حصر لها ولا حد، فيها ما لا عين رأت. عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) سورة إبراهيم آية 36 وقول عيسى (إن تعذبهم فإنهم عبادك) سورة المائة آية 118 فرفع يديه وقال (اللهم أمتي أمتي) وبكى فقال الله تعالى لجبريل اذهب إلى محمد وربك اعلم فسله ما يبكيك“فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فقال الله تعالى” “اذهب إلى محمد فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك” رواه مسلم في صحيحه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) (سورة الزمر آية 53) قالوا: إنا نقول ذلك. قال ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال (إذن والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار) يا له من حب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته وكيف لا والله تبارك وتعالى يقول في حقه (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) إنها رحمة خصت أمته فضلا عن الرحمة التي عمت الناس أجمعين فقد قال الله في حقه وفي الغرض من بعثته (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) لقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هداية أمته وعلى نجاتها من العذاب والهلاك فدعاها إلى ما يحييها واخرج الله به الناس من الضيق إلى السعة ومن الجور إلى العدل ومن الظلمات إلى النور، لقد هداهم إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم ودعاهم لما يحييهم وصبر على أذاهم وإعراضهم ولم يزد عليه الصلاة عن أن قال (اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون) كما لم يزد يوم أن فتح الله عليه مكة وقد وقفت بين يديه قريش صاغرة ذليلة قال لهم: ماذا تروني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، صلى الله عليه وسلم فهو الرحمة المهداة وهو الرأفة والحلم والصفح وهو الخير كله لأمته ولمن آمن به واتبعه. ثم عدد الله بعد ذلك بعض نعمه على عبده ونبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال جل من قائل (ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى) فقد نشا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيم الأب والأم لحكمة أرادها الله فأواه الله إلى عمه أبي طالب الذي وجد لديه وفيه العوض من حنان وإشفاق وحدب ووقوف إلى جانبه. قيل لجعفر بن محمد لم أُوتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (لئلا يكون لمخلوق عليه حق). وقال مجاهد: هو من قول العرب درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل فمجاز الآية" الم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك (ووجدك ضالا فهدى) أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة فهداك وأرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة كقوله جل ثناؤه (لا يضل ربي ولا ينسى) أي لا يغفل، وقيل ضالا في شعاب مكة فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب وكل ذلك لا تضيق به الآية وقد أورد ذلك وتوسع فيه بإسهاب القرطبي في تفسيره لهذه السورة. (ووجدك عائلا فأغنى) أي وجدك فقيرا لا مال لك وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق وقال الكلبي قنعك بالرزق وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس فأغنى قلبك إلى آخر الأقوال المأثورة التي فسر بها السلف الصالح من صحابة وتابعين وتابعيهم من العلماء هذه السورة الجليلة. يقول جل من قائل في ختام سورة الضحى (فأمّا اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) ما أجملها من خاتمة وما أروعه من تتويج فيه الإرشاد إلى الأدب الرفيع والخلق الرضي، يأمر به الله تبارك وتعالى رسوله ونبيه ويؤدبه به فيحسن تأديبه وصدق عليه الصلاة والسلام حين قال (أدبني ربي فأحسن تأديبي) واستحق بأن يمدح بأبلغ مدح حيث قال الهأ في حقه (وانك لعلى خلق عظيم) إن هذه الأوامر من الله تبارك وتعالى لن تجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الامتثال والطواعية فهواه عليه الصلاة والسلام تابع لما جاء به الوحي من عند الله. فالأمر من الله تبارك وتعالى في مثل هذه الآيات هو تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لنا معاشر المسلمين تكليف ينبغي علينا أن نروض أنفسنا عليه ونعودها به حتى تعتاده ويصبح سجية وعادة وخلقا رضيا لنستحق جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنان الخلد (أقربكم مني مجالس أحاسنكم أخلاقا...) لا تقهر ولا تتسلط على اليتيم الضعيف المصاب المبتلى الفاقد لأبويه أو أحدهما ولا يعرف معنى اليتم ومذلته إلا من عاشه والمخاطب (رسول الله صلى الله عليه وسلم) عاش يتيما ولأجل ذلك فإن وقع هذا الأمر عليه أشد من غيره. وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى أهمية هذا الباب من أبواب البر والطاعة أي باب الإحسان إلى الأيتام فقال عليه الصلاة والسلام (إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس واطعم المسكين) وقال (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين) وأشار بالسبابة والوسطى وقال (إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمان فيقول الله تعالى لملائكته من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب فتقول الملائكة: ربنا أنت اعلم فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي اشهدوا أن من أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة) وقال عليه الصلاة والسلام (من ضمّ يتيما فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجابا من النار يوم القيامة ومن مسح براس يتيم كان له بكل شعرة حسنة) فالإحسان إلى اليتيم باب عظيم من أبواب الإحراز على مرضاة الله أمر به المولى سبحانه وتعالى نبيه وأمر به النبي عليه السلام أمته. (وأما السائل فلا تنهر) والنهر والزجر هو القول الغليظ فالسائل الجأته الأقدار والاحتياج فأوقفته على أبواب الناس يسال حاجته فالعاقل من اعتبر بأنه كان يمكن أن يكون في موضعه ولكن الله منّ وتكرم وأعطى واقرض فالمنطق يقتضي والعقل السليم يحكم بأن لا يرد القادر من يحتاج إليه من عباد الله وقد وردت في الأمر بالعطاء كثيرا وقليلا عديد الآيات والأحاديث التي وعد الله فيها بالإخلاف والأجر والثواب العظيم من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (لا يمنعن أحدكم السائل وأن يعطيه إذا سال ولو رأى في يده قلبين من ذهب) والقلب بضم وسكون السوار. وقال (رُدّوا السائل ببذل يسير أورد جميل فانه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله) وقيل (السائل) بمعنى السائل عن المسائل العلمية وجواب السائل في الدين فرض على العالم. وتختم السورة بقوله جل من قائل (وأما بنعمة ربّك فحدث) ونعم الله لا حد لها ولا حصر (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) والاعتراف بالعجز عن شكر نعم الله شكره والشكر هو في حد ذاته نعمة ينعم بها الله على عباده وقليل من عباد الله من يشكر ولكن الشاكرين يزيدهم الله من نعمه (ولئن شكرتم لأزيدنكم) فالحمد لله والشكر له على نعمه الظاهرة والخفية والحمد لله على نعمة الإسلام والهداية والحمد لله على الصحة والعافية والحمد لله على المال والبنين والحمد لله على كل شيء حمدا يوافي نعمه التي لا تحصى ولا تعد. أن المسلم الذي شرح الله صدره ونوّر له بصيرته وهداه إلى سواء السبيل مدعو إلى أن يشكر الله باللسان وبالحال. قال الحسن بن علي رضي الله عنهما (إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعطي خيرا فلم ير عليه سمي بغيض الله معاديا لنعم الله). وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بالنعم شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب). وروى النسائي عن مالك بن نفلة الجشمي قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فرآني رثّ الثياب فقال: ألك مال؟ قلت نعم يا رسول الله من كل المال قال: إذا أتاك الله مالا فلير أثره عليك) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى اثر نعمته على عبده) صلى الله عليك يا رسول الله ما أجمل هديك وما ارفع الخلق الذي كنت عليه وأرشدت إليه أمتك في كل مجال من مجالات الحياة، دينك دين الكمال والجمال وهديك هدى إلى الصراط المستقيم من التزم به وسار على منهاجه سعد في الدارين فالحديث بنعمة الله (وما أكثر نعم الله على عباده) واجب وهو استدرار واستكثار لهذه النعم التي لا ينكرها إلا الكفور الجحود ولا يظهرها ويعبر عنها بحاله ولسانه إلا شكور نسال الله أن نكون ممن يذكرون نعم الله ويقيدونها بالشكر الجزيل إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.