في رحاب القرآن تفسير سورة “الشرح”

في رحاب القرآن تفسير سورة “الشرح”


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)” صدق الله العظيم في سورة (والضحى) وبعد القسم بآيتي الضحى والليل إذا سجى وطمأنة الله لنبيه وحبيبه بان ربه لم يودعه ولم يقطعه وبعد ان اخبره بان ما ينتظره في الآخرة أعظم وأكبر (وللآخرة خير لك من الاولى) وهي خير له ولأمته، فالآخرة هي دار الجزاء الاوفى والاوفر ولا تساوي الدنيا بالنسبة للآخرة شيئا ولذلك فهو سبحانه وتعالى يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب، يعطيها للكافر والمؤمن، وللعاصي والمطيع، اما الدين فانه لا يعطيه الا لمن يحب. وقد ورد في الحديث الشريف (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى منها الكافرجرعة ماء) وفي كتاب الله العزيز وسنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مستفيض ومدقق عن الدنيا والآخرة. بعد (وللآخرة خير لك من الأولى) جاء قوله تعالى (ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فاما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) ذلك ما ورد في سورة (والضحى والليل اذا سجى) لقد جاء التذكير (بألم) وما بعدها في وسط السورة أما في سورة (ألم نشرح) فقد بدأت مباشرة بقوله جل من قائل (ألم نشرح لك صدرك) وشرح الصدور ورد في مواضع اخرى من كتاب الله منها قول الله تبارك وتعالى (من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) وقوله تعالى (رب اشرح لي صدري ويسر لي امري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) وشرح الصدر في هذه السورة يحمل على الحقيقة والمجاز فالقرآن حمال معان والقاعدة الأصولية تقول (إذا استوى التقييد وعدم التقييد فعدم التقييد اولى). فكتب السيرة تقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع شق صدره الشق الحقيقي المادي مرتين احداهما وهو لا يزال صبيا صغيرا والثانية ليلة الاسراء والمعراج ولا عجب في امر الله فهو سبحانه وتعالى على كل شيء ونحن نرى اليوم في عالم الطب والتشريح أمورا كانت من قبيل المستحيل وها هي اليوم في الواقع المعيش تجرى على المرضى ادق العمليات الجراحية وبمجرد الانتهاء منها يعود المريض الى ما كان عليه من صحة وعافية. هذا فعل الانسان الضعيف وتلك قدراته التي مهما كانت فانها بالنسبة لقدرة الله تظل محدودة ولا يمكن مقارنتها بقدرة الله التي لا حد لها والشان في مثل هذه الاخبار (شق الصدر) هو التثبت في اسنادها فاذا صحت فلا تناقض عقلي في امكانية وقوعها بل انها تدخل ضمن صفة القدرة الالهية التي لا حد لها. أما الشرح بالمعنى المجازي لا المادي فهي ما نحس به جميعا معاشر المؤمنين عندما نقبل بكليتنا على ربنا ونتلو بتدبر وتمعن كلامه العزيز، هذا الكلام الذي لو ألقى على جبل لرايته خاشعا متصدعا أما قلب المؤمن فانه يتلقاه وينشرح به، ويطمئن به ويسعده ويتذوق حلاوة لا تساويها اية حلاوة اخرى اذ للايمان حلاوة اخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان ان يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وان يحب المرء لا يحبه الا لله وان يكره ان يعود الى الكفر كما يكره ان يقذف في النار). وكل من كانت له مع كتاب الله العزيز ومع ذكر الله وقفات الا واحس بهذا الانشراح وذاق تلك الحلاوة. ولا شك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ القمة في هذا المجال كما بلغها في كل المجالات (وكان فضل الله عليك عظيما) الم يكن يقول لبلال عندما يحين أوان أداء الصلاة (أرحنا بها يا بلال)؟. ألم يقل (وجعلت قرة عيني في الصلاة)؟ ألم يكن عليه الصلاة والسلام يقوم الليل الى ان تتفطر قدماه والحال ان الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، انه صلى الله عليه وسلم العبد الشكور (أفلا اكون عبدا شكورا) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ادبه ربه فاحسن تاديبه وزكاه وطهره وهداه وعصمه وحفظه وتولاه بعين العناية والرعاية وأعده لأداء اعظم مهمة، فهو خاتم انبيائه ورسله وهذا بعض مما اختصه الله به وهذه المنة الالهية التي افتتحت بها هذه السورة (ألم نشرح لك صدرك) ومن شرح الله له صدره فهو في نعيم لا يساويه نعيم آخر وهو في راحة نفسية وطمانينة قلبية. وقد ناسب ان تفتتح هذه السورة بتذكير الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بهذه المنة الإلهية العظمى (ألم نشرح لك صدرك) وبهذا الشرح للصدر الذي منّ به الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كان لا يقلقه امر فقد اتسع صدره للقاصي والداني والمحسن والمسيء تحمل الجميع بسعة بال وحلم وعفو ورضا بما قدر الله، لسانه وحاله يرددان (ان لم يكن بك علي غضب فلا ابالي) للقد كان عليه الصلاة والسلام بما من به الله عليه من خلق عظيم عفوا كريما حسن الاخلاق وطيب الكلمة لين الجانب سليم القلب يغلب عليه البشر. ثم يقول جل من قائل (ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك) لقد حفظ الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام من اوزار الجاهلية وضلالاتها وشركها الى ان جاءه الوحي واختاره الله للنبوة والرسالة وهي عناية الهية لولاها لما كان في مأمن مما وقع فيه قومه وكل من حوله من كفر وعبادة للاوثان والاصنام. لقد كان عليه الصلاة والسلام محفوفا بالعناية والرعاية الالهية يخلو بربه يطلب هدايته ويستلهم منه الرشاد والهداية إلى الصراط المستقيم، لقد وضع الله عنه كل وزر مما يثقل الظهر ويتعب النفس. ثم يقول جل من قائل (ورفعنا لك ذكرك) وفي حديث ابي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: اتاني جبريل فقال: ان ربي وربك يقول كيف رفعت ذكرك قال الله اعلم. قال: (إذا ذكرت ذكرت معي). وفي حديث انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما فرغت مما أمرني به من امر السماوات والارض قلت: يارب انه لم يكن نبي قبلي الا وقد كرمته جعلت ابراهيم خليلا وموسى كليما وسخرت لداود الجبال ولسليمان الريح والشياطين واحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي؟ قال“اوليس قد اعطيتك افضل من ذلك كله اني لا اذكر الا ذكرت معي وجعلت صدور امتك اناجيل يقراون القرآن ظاهرا ولم أعطها امة واعطيتك كنزا من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”. ان ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيع (لا اله الا الله محمد رسول الله) في السماوات والاراضين وبين عباد الله والملائكة المقربين وذلك فضل الله آتاه له كرما وجودا وفضلا منه سبحانه وتعالى ولا يزال -والى ان يرث الله الارض ومن عليها- ذكر رسول الله عاليا رفيعا فهنيئا له وهنيئا لنا به انه في المقام المحمود الذي لم ولن يصل إليه احد من خلق الله. ثم يقول جل من قائل (فان مع العسر يسراان مع العسر يسرا) انه التبشير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بان ما مر به من شدة وعسر هو إلى زوال فاليسر آت والفرج قريب والنصرة من الله هي خاتمة المطاف لقد جعل الله بعد كل ضيق وكرب فرجا، فامره سبحانه وتعالى هو الغالب في النهاية (لا غالب له) (هو القاهر فوق عباده) وعد بالنصر والفتح والفرج فكان كل ذلك، فهو لا يخلف الميعاد عن ابن مسعود مرفوعا لوكان العسر في حجر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه ولن يغلب عسر يسرين ان الله يقول (فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا). ثم يقول (فاذا فرغت فانصب والى ربك فارغب) خطاب من الله لنبيه ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام يوجهه الى مداومة الاقبال على ربه، فهو سبحانه وتعالى اصل وسبب كل الخير والفلاح منه، والخير منه، والفضل ومنه، والعطاء منه والنصر منه، والفرج منه فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة او من الجهاد فهو مامور بان يتوجه الى ربه بالدعاء والضراعة والطلب ففي الالتجاء الى الله والاحتماء به والطلب منه والاستنصار به يتحقق له كل مرغوب ومطلوب. ذلك هو حال كل عبد منيبالى ربه وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو في هذا المقام كما في غيره قدوة واسوة للمؤمنين انه القائل لامته (الدعاء مخ العبادة) و(الدعاء سلاح المؤمن) وهو المبلغ لهم قول ربهم جل وعلا (واذا سالك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان) وقوله (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) وقوله (امن يجيب المضطر إذا دعاه) فسبحانه وتعالى من رب كريم لطيف رحيم اليه ينبغي علينا ان نسعى ونرغب ليس لنا سواه فنرجوه ونطلبه وندعوه ظننا به حسن لن يخيبنا مهما اقترفنا من الذنوب والسيآت فهو الغفور الرحيم نقدم بين يدي دعائنا (لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين استغفرك وأتوب إليك)، حاشاه أن يردنا بكرة الخائب الخاسر لقد بدأنا بالكرم وهدانا إلى دين الإسلام وجعلنا من امة سيد الانام عليه الصلاة والسلام فاللهم انا نسالك ونتوجه اليك بنبيك وحبيبك وخيرة خلقك وصفوتك من انبيائك ورسلك سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ان تتقبلنا بعفوك وصفحك وغفرانك واحسانك ولطفك فقد امرتنا بالصفح والعفو وانت العفو الكريم فاعف عنا يا كريم ويا رحيم.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.