في رحاب القرآن:تفسير سورة “الرحمان”

في رحاب القرآن:تفسير سورة “الرحمان”


سورة الرحمان مكية إلا (يسأله من في السماوات والأرض) فهي مدنية ورد في فضيلتها حديثان أحدهما رواه الترمذي والآخر رواه البزار وهما بنفس المعنى حيث جاء في رواية الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة الرحمان من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا لا بشيء من نعمك ربك نكذب فلك الحمد). يقول جل من قائل (الرحمان علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان). (الرحمان) اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العلى التي لا يمكن ان يصل الى منتهاها وغايتها احد من خلق الله فهو وحده الرحمان بعباده وسائر خلقه. بدأت هذه السورة العظيمة الشأن باسمه الرحمان ولا يخفي ما في ذلك من التصريح والإشارة إلى لطفه وعنايته وابتدائه لعباده بالرحمة التي تتجلى في كل شيء وحيثما نظر الإنسان. (علم القرآن) القرآن الكريم كلامه الذي انزله على عبده ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا الذكر المبين والصراط المستقيم. قرآن عربي مبين يسره الله سبحانه وتعالى وأطلق لسان الإنسان فجعله فصيحا قادرا على التعبير والإبلاغ وتلك آية من آيات قدرته وهو سبحانه وتعالى الذي جعل الشمس والقمر بحسبان أي يجريان بدقة وانتظام، لا يختلفان ولا يتخلفان في أوان ظهورهما للناس فسبحانه ما أقدره، عبرت عن هذه الحقيقة الكونية المشاهدة كل يوم منذ ان خلق الله الكون الآيات القرآنية ولفتت إليها الانتباه وجاءت العلوم والمعارف والاكتشافات لتزيد المؤمنين يقينا في قدرة الله، يقول جل من قائل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) سبحانه وتعالى من إله قادر لا يستحق العبادة إلا هو. (النجم والشجر يسجدان) وكيف لا يسجدان لمن خلقهما؟ وهل السجود إلا مظهر من مظاهر الاعتراف لله بالقدرة (وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فالسجود بالنسبة للنجم والشجر لا ينبغي أن نتصوره بالكيفية المتعارف عليها عادة مما يصدر عن الإنسان وما نراه منه وإن كان وقوعه فعليا ليس بالمستحيل. يقول جل من قائل (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس). فهو سبحانه وتعالى من رفع السماء عالية وجعلها طباقا لا يحتاج في رفعها إلى الأعمدة ووضع سبحانه وتعالى الميزان أي العدل والحق وهو كما رفع السماء بالحق أمر عباده بالعدل والحق. (ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) فالله سبحانه وتعالى يذكر عباده بما أقام عليه السماوات والأرض من نظام لا جور فيه ولا حيف فيه ولا ميل فيه فكذلك عليهم أن لا يطغوا في الميزان وان يكون وزنهم بالقسط وان لا يخسروا فيه أي لا يطففوا فيه (ويل للمطففين الذين اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون). ثم يقول جل من قائل (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان) انه سبحانه وتعالى هو الذي مد الأرض ومهدها وأرساها بالجبال فجعلها بذلك صالحة للعمارة والاستقرار عليها. وجعل مما عدده الله وذكر به من نعمه تلك التي أنبتتها الأرض: الفاكهة المختلفة في الطعم واللون والرائحة، وجعل مما عدده الله وذكر به من نعمه النخل لما فيه من الفوائد والمنافع وأشار لما للنخل من الأكمام وهي الأوعية التي يتكون فيها الطلع الذي يتحول إلى بلح ثم بسر ثم تمر وكذلك جعل في الأرض الحب ذا العصف يعني التبن والعصف هو ورق الزرع الذي تقطع رؤوسه فحين يصبح يابسا فهو العصف والريحان والورق، إنها نعم الله التي لا يمكن إنكارها ، يغمر بها الله عباده لذلك قالت الجن (اللهم ولا بشيء من آلائك نكذب فلك الحمد). ثم يقول جل من قائل (خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان). فاصل الانسان الاول آدم عليه السلام طين نفخ فيه الله من روحه واصل الجان من نار قال رسول الله (خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم فبأي نعم الله يكذب الانسان؟ إنه رب المشرقين ورب المغربين إشارة الى مشرقي الشمس ومغربيها في الصيف والشتاء وفي ذلك اشارة الى اختلاف المطالع وللشمس مشارق ومغارب (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) (رب المشرق والمغرب لا اله إلا هو فاتخذه وكيلا) وفي ذلك لفت للانتباه الى ما جعل الله في هذا الكون من الآيات الدالة على قدرته ولطفه والمبينة لما سخره الله جل وعلا لعباده في الكون (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) وفي هذا إشارة إلى قدرته بحيث جعل البحرين المالح والعذب لا يلتقيان ولا يختلطان جعل الله بينهما برزخا وحاجزا من الارض لئلا يبغى هذا على هذا فيفسد كل منهما الآخر. وهو سبحانه وتعالى يخرج منهما (من احدهما) اللؤلؤ والمرجان فبأي نعم الله يكذب العبد؟ وهو سبحانه وتعالى الذي يجري السفن في البحر بإذنه فإذا هي كالجبال فبأي نعم الله يكذب العبد؟ ثم يقول جل من قائل (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يساله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شان فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان). يبدأ هذا المقطع من سورة الرحمان بالتذكير بحقيقة لا ينكرها احد وهي ان الله قهر عباده بالموت والفناء فالبقاء له وحده كل من على الارض فان وميت حتى افضل خلق الله واشرف أنبيائه عليه الصلاة والسلام يقول له جل من قائل (انك ميت وانهم ميتون) الخلود والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى (اذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون) ايمكن ان ينكر هذه الحقيقة احد؟ ايمكن ان يفلت من الموت احد؟ (أينما تكونوا يدرككم الموت). ان الله سبحانه وتعالى الغني الحميد يساله كل من خلق من عباده حوائجهم فلا يعي بها انه (الله الصمد) الذي لا ينقص ملكه مهما اعطى لعباده ومهما اجابهم لما يطلبونه منه فكل يوم هو في شان يقضيه لعباده على اختلاف حوائجهم ويلم بهم من ملمات ومضايق. فبأي الآلاء والنعم يكذب العباد؟ ثم يتوعد الله جل وعلا الثقلين (الانس والجن) حيث سيقضي بينهم ويحاسبهم لا يشغله عن ذلك شاغل فبأي نعم الله يكذبان (الانس والجن) ثم يقول الله متحديا للانس والجن (يا معشر الجن والانس ان استطعتهم ان تنفذوا من اقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذوا إلا بسلطان) فإنهم لن يستطيعوا الهرب من حكم الله وأخذه فهو محيط بهم إلا سلطان أي إلا بأمر من الله. فالله سبحانه قادر على ان يرسل سيلا من نار (شواظ) ونحاس (دخان النار) أو نحاس يذاب فيصب على رؤوسهم والمعنى أنهم لو ذهبوا هروبا يوم القيامة لردتهم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس المذاب ليرجعوا ولهذا قال (فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) انظر الصفحة 349 من الجزاء الرابع تفسير ابن كثير. ثم يقول جل من قائل (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبا فيومئذ لا يسال عن ذنبه انس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان). ينتقل السياق الى بيان اهوال الساعة والقيامة التي ورد التذكير بمجيئها الذي لا بد منه في عديد السور (فإذا انشقت السماء) (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) (ويوم تشقق السماء بالغمام) (اذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت) تكون السماء كأنها وردة تتلون بالأصباغ حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة اهوال هذا اليوم فالسماء يوم القيامة تصبح كالدهن الذائب لما يصيبها من حر جهنم. فيومئذ تجيب عن الانس والجن ايديهم وارجلهم بما كانوا يعملون فالله سبحانه وتعالى عليم بما عملوا فبأي آلاء ونعم الله يكذب الانس والجن؟ فالمجرمون تظهر علاماتهم عليهم في وجوههم وعيونهم وعند ذلك يجمع الزبانية نواصيهم واقدامهم ويلقون بهم في نار جهنم. هذه هي جهنم التي اعدها الله لهؤلاء المجرمين والتي يكذبون بها قال محمد بن كعب القرضي يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس (حميم آن) أي حميم حار جدا (فبأي آلاء ربكما تكذبان). ثم يقول جل من قائل (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيها عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام). ينتقل السياق للحديث عما اعده الله لاهل الجنة من نعيم، أنهم في جنان، إن لهم جنتان فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين جنتان ذوات أغصان فبأي آلاء ربكما تكذبان وفي الجنتين من كل فاكهة زوجان. ان المنعمين من عباد الله المتقين متكئين على فرش هي من الديباج المذهب قرب الله اليهم الثمار (وجنى الجنتين دان) يتناولونه عندما يشاؤون وفي الجنة نساء جميلات هن لازاوجهن خلص وهن من الابكار لم يطاهن احد قبل ازواجهن انهن كالياقوت والمرجان كناية عن الجمال إن ذلك هو جزاء للمحسنين الذين أحسنوا العمل واستجابوا لربهم. عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خاف ادلج ومن ادلج بلغ المنزل الا ان سلعة غالية الا ان سلعة الله الجنة) الترمذي. ودون الجنتين جنتان أخريان مدهامتان قد اسودتا من الخضرة وشدة الري من الماء وفي الجنة عينان فياضتان. وفي الجنتين فاكهة ونخل ورمان وفي الجنتين خيرات كثيرة (حور مقصورات في الخيام...) وفي الجنة التي اعدها الله لعباده المتقين مالاعين رأت ولا أذن سمعت، فيها ما ذكرت بعضه سورة الرحمان إنها الزرابي المبثوثة والخيرات المنشورة والثمار غير المقطوعة وغير الممنوعة فتبـارك الله (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) أي ذي العظمة والكبرياء عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) وهو الإلحاح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة الا بقدر ما يقول (اللهم انت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.