في رحاب القرآن تفسير سورة “التين”

في رحاب القرآن تفسير سورة “التين”


يقول الله تبارك وتعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)) صدق الله العظيم سورة التين من السور المكية يقسم الله تبارك وتعالى في مفتتح هذه السورة بالتين والزيتون ولا يقسم الله إلا بعظيم وفي ذلك لفت للأنظار وشد للاهتمام من أجل التدبر والاعتبار والتفكر في ما خلق الله لعباده وما بث في كونه الواسع الفسيح مما يدل دلالة قطعية على قدرته وبديع خلقه ففي ذلك آيات لأولي الأبصار الذين يتفكرون فيما خلق الله في السماوات والأرض. والقسم بعظيم خلق الله وصنعه يتكرر في عديد السور التي تفتتح بمثل قوله جل من قائل (وَالضحى) و(السماء والطارق) (والشمس وضحاها) وغير ذلك كثير. وفي هذه السورة يقسم الله بالتين، ويقسم بالزيتون، ويقسم بطور سينين ويقسم بالبلد الأمين، أما التين والزيتون فهما كما قال ابن عباس رضي الله عنه (هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت) قال الله تعالى (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين) المؤمنون الآية 20. وقد أورد القرطبي في تفسيره أحاديث عديدة تبين فوائد التين وفوائد الزيتون وهي أحاديث عند ثبوت صحتها تدخل ضمن ما أطلق عليه الإعجاز العلمي والطبي في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى فإذا صح سند هذه الأحاديث وتطابقت مع ما انتهى إليه العلم والطب في العصر الحديث فذلك برهان آخر ودليل آخر على نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فهو أمي (لا يحسن القراءة والكتابة) وعلوم زمانه لم تكن متطورة ولا متقدمة وليست هنالك الوسائل العلمية المتطورة الموجودة اليوم فلا يبقى من مصدر لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الوحي (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). وقد شهدت السنوات الأخيرة انعقاد حلقات حوار ومؤتمرات وندوات بين علماء من مختلف الاختصاصات: مسلمين وغير مسلمين لبحث مسالة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي السنة الطاهرة وصدرت على إثرها بيانات وشهادات واعترافات باستحالة: * أن يكون القرآن الكريم كلام بشر. * واستحالة أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. ونزل ذلك بردا وسلاما على قلوب المؤمنين وزادهم ذلك تمسكا بكتابهم العزيز القرآن الكريم واعتزازا بنبيهم سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام. قال أبو ذر رضي الله عنه: اهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم سل تين فقال: كلوا وأكل منه ثم قال: لو قلت أن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم (العجم النوى) فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس. وعن معاذ: انه إستاك بقضيب زيتون وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر (بضم الحاء وسكون الفاء وفتحها، صفرة تعلو الأسنان) وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي. * وأورد القرطبي في معنى التين والزيتون عدة أقوال لا تفيدها ظواهر كلمتي التين والزيتون ولكن لا تنفيها باعتبار أن لكلام الله حقيقة ومجازا فأطلق على التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى والتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس... ولا شك أن تلك الأرض المباركة في القرآن (المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) تستحق أن يقسم بها المولى سبحانه وتعالى. ولكن الاكتفاء بحقيقة التين والزيتون فيهما من العبر والمواعظ ما يكفي لجدارتهما بالقسم بهما فهما آيتان من آيات الله وقد قيل إن ورق الجنة الوارد في قوله تعالى (يخصفان عليهما من ورق الجنة) سورة الأعراف الآية 22 هي ورق التين، كما أن الله تبارك وتعالى اقسم بالزيتون (يوقد من شجرة مباركة زيتونة) سورة النور الآية 35. والزيتون وزيته فيهما منافع وفوائد كثيرة وهو كثير الاستعمال في البلدان التي ينبت فيها (بلاد الشام والمغرب) في الطبخ ويتداوون به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة). ثم أقسم الله تبارك وتعالى بطور سينين وسينين هو المبارك الحسن وقيل هو كل جبل فيه شجر مثمر. وقال عكرمة سينين هو الجبل الذي نادى الله منه موسى عليه السلام وهذا يناسب ما يليه من قوله جل من قائل (وهذا البلد الأمين) وهو مكة المكرمة (ومن دخله كان آمنا أو نمكن لهم حرما آمنا). ثم يقول جل من قائل (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) ويمكن أن يقصد بالإنسان الوليد بن المغيرة ولا يعني ذلك انه يقتصر عليه بل يعم كل إنسان (في أحسن تقويم) في أجمل خلقة: اعتدالا واستواء ليس منكبا على وجهه قال ابن العربي فيما أورده القرطبي (ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فان الله خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما وهذه صفات الرب سبحانه) وعنها عبر بعض العلماء ووقع البيان بقوله (إن الله خلق آدم على صورته) أي على صفاته. قال القرطبي فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا جمال هيئة وبديع تركيب: الرأس بما فيه والصدر بما جمعه والبطن بما حواه والفرج وما طواه واليدان وما بطشتاه والرجلان وما احتملتاه ولذلك قالت الفلاسفة: انه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه. (ثم رددناه أسفل سافلين) تعني رده إلى أرذل العمر وهي مرحلة الضعف الكامل وتعني رده إلى نار جهنم عندما طغى واستكبر وكفر بنعم الله عليه فقال (أنا ربكم الأعلى) ورده إلى الضلال (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات) ثم قال جل من قائل (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) فان الله تبارك وتعالى يكتب لهم أعمالهم الصالحة وتغفر لهم سيآتهم قال الضحاك (إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة والصدقة ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه أجرى الله عز وجل له ما كان يعمل في شبابه) وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا) قيل لا يرد إلى أسفل سافلين لا يخرف ولا يهرم ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا وعن عاصم عن عكرمة قال (من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر). وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله وروي أن العبد المؤمن إذا مات أمر الله ملكيه (أو ملائكة) أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة ويكتب له ذلك. (فلهم أجر غير ممنون) قال الضحاك أجر بغير عمل وقيل غير مقطوع (فما يكذبك بعد بالدين)، الخطاب لمن كفر فيه التوبيخ وفيه إقامة الحجة قال القرطبي (أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم وانه يردك إلى أرذل العمر وينقلك من حال إلى حال فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء وقد أخبرك محمد صلى الله عليه وسلم به؟ وهناك أقوال أخرى في الخطاب انه موجه للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم ختم الله السورة بقوله (أليس الله بأحكم الحاكمين) وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إذا قرآ (أليس الله بأحكم الحاكمين) قالا: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة التين والزيتون، فقرأ (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.