في رحاب القرآن: تفسير سورة “التكوير”
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول الله تعالى: “إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)” صدق الله العظيم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرا (إذا الشمس كورت) (وإذا السماء انفطرت) (وإذا السماء انشقت). (إذا الشمس كورت) قال ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش قال القرطبي وأصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوؤها وعن ابن صالح كورت انكسرت (وإذا النجوم أنكدرت) تهافتت وتناثرت، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض حتى يفرغ أهل السماء السابعة مما لقيت وأصاب العليا) ويحتمل أن يكون طمس آثارها. (وإذا الجبال سيرت) قلعت من الأرض يقول تعالى “ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة” وقيل سيرها تحولها عن منزلة الحجارة فتكون كثيبا مهيلا، أي رملا سائلا كالعهن المنفوش وتكون هباء منثورا وتكون سرابا مثل السراب الذي ليس بشيء وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أورد ذلك القرطبي (وإذا العشار عطلت) العشار النوق وهي اعز ما يملك العرب وأغلى ما عندهم ولذلك أوردها على سبيل المثال فيوم القيامة لا تكون ناقة عشراء قال القرطبي أراد بهذا مثلا أن هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه وقيل إنهم إذا قاموا من قبورهم وشاهد بعضهم بعضا ورأوا الوحوش والدواب محشورة وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبؤوا بها ولم يهمهم أمرها. يقال ناقة عشراء وناقتان عشروان ونوق عشار وعشروات يبدلون من همزة التأنيث واوا وقد عشرت الناقة تعشيرا أي صارت عشراء وقيل العشار السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر والعرب تشبه السحاب بالحامل وقيل الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع أوردنا هذا كعينة على ثراء هذا التفسير الذي نعتمد عليه وننطلق منه ونورد منه للقراء ما يسمح به المجال. (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت والحشر هو الجمع عن ابن عباس قال: يحشر كل شيء حتى الذباب وقال تحشر الوحوش غدا أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. (وإذا البحار سجرت) أي ملئت من الماء قال ابن أبي زمنين سجرت حقيقته ملئت فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا وقيل أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها حتى امتلأت وقال الضحاك ومجاهد فجرت فصارت بحرا واحدا. وقيل صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل الجحيم وقد أورد القرطبي بتوسع كبير أثارا كثيرة يمكن العودة إليها. (وإذا النفوس زوجت) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله) وقال عمر بن الخطاب (يقرن الفاجر مع الفاجر ويقرن الصالح مع الصالح) أي قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار. (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) الموؤودة المقتولة وهي الجارية تدفن حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب وهي عادة جاهلية أماتها الإسلام وهول من هذا الصنيع الذي يتنافى مع الإنسانية والرحمة وقد كان عليه العرب إذ يعتبر الآباء الذين يرزقون بناتا أن ذلك عار وشنار يتوارون منه من الناس ويظلون في هم وغم يدبرون جرما عظيما لا يهنأ لهم بال حتى ينفذوه فيدفنون هذه البنت حية (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) لم تقرف جرما ولم ترتكب ظلما ولكنها الجاهلية والحماقة والغلظة وسؤال الموؤودة هنا سؤال توبيخ لوائدها ويستنتج القرطبي من هذا بأنه فيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن التعذيب لا يستحق إلى بذنب. (وإذا الصحف نشرت) والمراد صحف الأعمال التي كتبت فيها الملائكة ما فعل العباد من أعمال الخير والشر تطوى بالموت وتنشر في يوم القيامة. (وإذا السماء كشطت) الكشط القلع والسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء (وإذا الجحيم سعرت) أي أوقدت وأضرمت والإسعار للنار الزيادة في إحماء النار وقال قتادة سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وإذا الجنة أزلفت) دنت وقربت من المتقين ومن ذلك قوله تعالى (وأزلفت الجنة للمتقين). (علمت نفس ما أحضرت) أي ما عملت من خير وشر وهذا جواب (إذا الشمس كورت). قوله تعالى (فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون). (فلا اقسم) أي اقسم (بالخنس الجوار الكنس) وهي الكواكب الخمسة زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة قال علي هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها أي تتأخر عن البصر لخفائها فلا ترى. والله تبارك وتعالى لا يقسم إلا بعظيم وهو كما يقول القرطبي إن الله يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد وان لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. (والليل إذا عسعس) أي أدبر بظلامه (والصبح إذا تنفس) أي امتد حتى يصير نهارا واضحا (انه لقول رسول كريم) هذا جواب القسم والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام وذلك ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله عز وجل (ذي قوة) ومن قوته قلعه مدائن لوط بقوادم جناحه (عند ذي العرش مكين) ذي منزلة ومكانة عند الله (مطاع ثم أمين) في السماوات قال ابن عباس من طاعة الملائكة لجبريل أمين مؤتمن على الوحي الذي ينزل به. (وما صاحبكم بمجنون) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون حتى يتهم. قوله تعالى (ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). (ولقد رآه بالأفق المبين) أي رأى جبريل في صورته وقيل الأفق المبين أقطار السماء ونواحيها (وما هو على الغيب بضنين) أي بمتهم وقيل بخيل وقيل ضعيف و(ما هو) يعني القرآن (بقول شيطان رجيم) أي مرجوم ملعون. (فأين تذهبون) قيل أين تعدلون عن هذا القول وطاعته وقيل أين تذهبون عن كتابي وطاعتي وقال الزجاج فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم؟ (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) موعظة (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فكل شيء بتوفيق الله وعونه والآيات في كتاب الله العزيز كثيرة تلك التي تركز هذه العقيدة وان الله هو الهادي إلى سواء السبيل نسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم انه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
