في رحاب القرآن:تفسير سورة “البلد”

في رحاب القرآن:تفسير سورة “البلد”


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول الله تعالى: “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)”صدق الله العظيم سورة البلد مكية (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أي اقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة زادها الله تشريفا وتعظيما. (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي وأنت في مكة المكرمة اقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه يا محمد وذلك دليل آخر على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه وحبه له الذي لا حد له. ويمكن أن يكون (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) بمعنى أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله كما قاله السدي فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحلت لي ساعة من نهار ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة وذلك يوم فتح مكة) وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل إلا ساعة من نهار وفي معنى (حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) أقوال عديدة يمكن العودة إليها في كتب التفسير ومنها تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح “ووالد” آدم عليه السلام “وما ولد” أي وما نسل من ولده ووجه القسم بالوالد (آدم) (وما ولد) ولده وهم كما قيل لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التبيان والنطق والتدبير وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله وقد قيل أيضا في معنى (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) هو عموم في كل والد وكل مولود وذلك لا ينفيه السياق بل يعنيه إذ العبرة بعموم اللفظ والإنسان هو آية من آيات الله ولذلك قال جل من قائل (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). فالقسم في بداية هذه السورة بالبلد الأمين ومن هو في البلد الأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم والقسم بالوالد وما ولد وكل ذلك عظيم وكل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على وحدانية الله وعلى قدرته التي لا حد لها. يأتي جواب القسم بعد ذلك فيقول جل من قائل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) أي في عناء وفي شدة ومغالبة للدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: في شدة من حمله وولادته ورضاعته ونبت أسنانه وغير ذلك من أحواله. وللقرطبي في هذا المعنى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) كلام نفيس نورده تعميما للفائدة حيث قال (قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطا وشد رباطا يكابد الضيق والتعب ثم يكابد الإرتضاع ولو فاته لضاع ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه ثم يكابد الفطام الذي هو اشد اللطام ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان ثم يكابد التعلم وصولته والمؤدب وسياسته والأستاذ وهيبته ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم وضعف الركبة والقدم في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها من صداع الرأس ووجع الأضراس ورمد العين وغم الدين ووجع السن وألم الأذن ويكابد محنا في المال والنفس مثل الضرب والحبس ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ولا يكابد إلا مشقة ثم الموت بعد ذلك كله ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة أو في النار قال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودل هذا على أن له خالقا دبره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره) انتهى من تفسير الجامع لأحكام القرآن ج20 صفحة 63. قوله تعالى (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، أيظن ابن آدم أن الله لن يحاسبه ولن يعاقبه عما قدمت يداه. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو الأشدين يقول أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل أذنب ذنبا فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا فمن يحاسبني به ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته. ثم عدد الله بعض نعمه على هذا المجال المتشكك المشكك في قدرة الله على حساب عباده فيقول جل من قائل (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) والمعنى أن الله هو الذي فعل ذلك هو سبحانه وتعالى قادر على إحصاء كل أعماله قال أبو حازم (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق وان نازعك فرجك إلى ما حرمت عليه فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق). قوله تعالى (وهديناه النجدين) لقد بين الله لعباده بواسطة رسله وأنبيائه عليهم السلام طريق الخير وطريق الشر والإنسان بما وهبه الله من عقل سليم قادر على التفريق بين الحق والباطل والخير والشر والنور والظلام ومع ذلك فان عدل الله سبحانه وتحريمه للظلم على نفسه جعله لا يعذب عباده إلا بعد أن يرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب والصحف (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولابد أيضا من بلوغ الدعوة فالإنسان حينئذ مسؤول عما قدمت يداه إن فعل خيرا فله الأجر وان اقترف شرا فعليه الوزر وما يظلم ربك أحدا (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) انه العدل الإلهي الكامل والتام فلا يتحمل احد جريرة احد إذ (لا تزر وزر أخرى) (وان ليس للإنسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى) (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) فالله تبارك وتعالى هو الهادي إلى الصراط المستقيم، إنهما سبيلان لا ثالث لهما سبيل الله وسبيل الشيطان وما على الإنسان إلا أن يتحمل مسؤولية اختيار وممارسة حريته ولاشك أن العاقل الكيس الفطن هو من لا يحيد عن الصراط المستقيم والمحجة البيضاء التي لا يختلف ليلها عن نهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك والعياذ بالله. قوله تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) هل ذلك المتبجح المتكاثر بماله في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ذلك يجعله يتجاوز العقبة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ليست بالسهلة إنها تستدعي من العقل جهدا ومجاهدة ومكابدة وتضحية بالغالي والنفيس إنها امتحان صعب ينتظر هذا المفاخر المتكاثر بماله المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمكذب له كما ينتظر أمثاله اختبار شديد. (فَكُّ رَقَبَةٍ) هلا بذل هذا المتكاثر ماله في تحرير الرقاب المستعبدة وفي الإطعام للجياع إن إنفاقه في هذه المجالات من أبواب الخير هو الذي يتحقق به الاقتحام للعقبة وما أدراك ما العقبة، انه امتحان صعب، ويمكن أن يكون معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) بمعنى الدعاء عليه أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في تحرير الرقاب وإطعام الجياع والإحسان إلى الأيتام وبذل المعروف وغير ذلك من أوجه البر التي أرشد إليها الله عباده واخبر بها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. وقيل شبه المولى ثقل الذنوب وشدتها بالعقبة، وقال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله، وقال مجاهد والضحاك والكلبي هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف. وروى عن أبي الدرداء انه قال: إن وراءنا عقبة أنجى الناس أخفهم حملا. وفي عتق الرقاب وتحريرها وردت عدة أحاديث نذكر بعضها عن الحسن قال بلغنا انه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عضو رجل بكل عضو منها عضوا منه. هذه بعض الأحاديث الواردة في فضل عتق الرقاب وتحريرها وقد جعلها الله كفارة لبعض ما يقع فيه المسلم من زلات وأخطاء كل ذلك دليل قاطع على أن الإسلام هو دين تحرير النفس البشرية لا يقبل باستعبادها وامتهانها أيا كان دينها وجنسها ولونها وصدق عمر بن الخطاب حين صرخ في وجه واليه عمرو بن العاص (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). قوله تعالى (أوإطعام في يوم ذي مسبغة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة) يوم المسبغة هو اليوم الذي فيه الطعام قليل فإطعام من هم في حاجة ماسة إلى الطعام عليه من الله الأجر العظيم وهو من الأعمال التي تجعل صاحبها يقتحم العقبة وكذلك إطعام اليتيم القريب وهو لاشك أفضل، إذ (أولو القربى أولى بالمعروف) (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) واليتيم وردت في وجوب الإحسان إليه أحاديث عديدة مر التذكير بها عند بيان معاني قوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر) من سورة الضحى (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ). قال ابن عباس رضي الله عنهما هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره وقال قتادة: انه ذو العيال وقال عكرمة: المديون وقال ابن جبير الذي ليس له احد وعن عكرمة عن ابن عباس ذو المتربة البعيد التربة يعني الغريب البعيد عن وطنه ويقال ترب: إذا افتقر فكل هذه الأصناف من الناس الذين سبق ذكرهم اصطناع المعروف لهم من شانه أن يجعل القائم به يقتحم العقبة ويتجاوز الامتحان بنجاح. ثم يقول جل من قائل (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) لا يقتحم العقبة من فك رقبة أو اطعم في يوم ذا مسبغة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة حتى يكون من الذين آمنوا بمعنى التصديق ذلك أن الطاعات لا تقبل من القائم بها إلا إذا كان مؤمنا فالإنفاق بدون إيمان لا ينفع قال الله تعالى في المنافقين (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله). وقالت عائشة: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله فهل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: انه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. فلا بد للخير والمعروف الذي يريد القائم به أن يجازى عليه يوم القيامة أن يكون مؤمنا بهذا اليوم الذي لا شك فيه فكيف يرجو أجرا وثوابا في يوم لم يصدق به؟ (تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) والتواصي بالصبر ورد الأمر به في عديد الآيات من ذلك قوله جل من قائل في سورة العصر (والعصر غن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وهذا التواصي فيه التفاعل بين المؤمنين والنصح لبعضهم البعض، إذ الدين النصيحة ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والتواصي بالمرحمة أي بالرحمة لعباد الله. (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) من كانت هذه حالهم أي بذلوا المعروف من إطعام الفقير المحتاج واليتيم القريب المحتاج والمسكين ضعيف الحال ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة هؤلاء هم أصحاب الميمنة الذين يؤتيهم الله كتبهم بأيمانهم أما الذين كفروا بآيات الله ورسله فهم أصحاب المشئمة يأخذون يوم القيامة كتبهم بشمائلهم على هؤلاء نار موصدة هي نار جهنم أي مطبقة مغلقة عليهم لكفرهم بالله وتكذيبهم لرسله وإتيانهم للمعاصي والذنوب.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.