في رحاب القرآن:تفسير سورة “البروج”

في رحاب القرآن:تفسير سورة “البروج”


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: “وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)”صدق الله العظيم سورة البروج مكية وهي تبدأ بقسم (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) والبروج قيل ذات النجوم وقيل القصور وقيل الحرس وقيل ذات الخلق الحسن وقيل ذات المنازل. والقسم من الله تبارك كما سلف أن بينا لا يكون إلا بعظيم، والسماء هذه التي تظلنا آية من آيات الله وبرهان ودليل على عظمته وعلى قدرته وانه سبحانه وتعالى الخالق البارئ. وفي القسم بالسماء التي تظل كل خلق الله من آمن ومن لم يؤمن لفت لانتباه الجميع إلى كرم الله ورحمته وحلمه وعفوه وتجاوزه فالله سبحانه وتعالى هو الذي رفع السماء بغير عمد، والله تبارك وتعالى هو الذي جعل السماء طباقا، وفي السماء رزق العباد، والسماء عوالم وأقطار فتح الله مجالاتها أمام الإنسان إذا كانت له همة وعزيمة قال جل من قائل (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) وهذا السلطان هو العلم الذي أمر الله باكتسابه والتبحر فيه. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) هنا قسم آخر واليوم الموعود هو يوم القيامة قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه فلا بد لنا منه بعد موتنا ورحيلنا عن هذه الدنيا الفانية وبعد أن نصبح ترابا فان الله تبارك وتعالى الذي هو على كل شيء قدير سيبعث كل مخلوقاته وسيوقفهم بين يديه ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم، يوم القيامة هذا لا ينفع فيه إلا العمل الصالح الذي يقدمه صاحبه في هذه الحياة الدنيا أما الأموال والأولاد والأصحاب والجاه والملك فكل ذلك لا ينفع، انه يوم شديد الأهوال، يوم تذهل فيه المرضعة عن رضيعها وهو يوم تشيب له الولدان الصغار لكل امرئ في ذلك اليوم شأن يغنيه. (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة) قال القرطبي (...سائر الأيام والليالي فكل يوم مشهود وكذا كل ليلة ودليله ما رواه الحافظ أبو نعيم عن معاوية بن قره عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما عليك شهيد فاعمل في خيرا اشهد لك به غدا فاني لو قد مضيت لم ترني أبدا ويقول الليل مثل ذلك). وفي الشاهد والمشهود أقوال عديدة تضمنتها كتب التفسير بالمأثور والتي منها تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي الذي أورد الكثير منها ثم قال “قلت وقد يشهد المال على صاحبه والأرض بما عمل عليها ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل وانه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة) وفي الترمذي عن أبي هريرة قال (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية”يومئذ تحدث أخبارها" قال أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فان أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا قال: فهذه أخبارها) كما روى أبو الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فانه يوم مشهود تشهده الملائكة) قال تعالى (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) قتل أي لعن وهذا جواب على القسم قال ابن عباس كل شيء القرآن (قُتِلَ) فهو لعن والأخدود الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) ذات الحطب وقيل ذات الاتقاد والالتهاب وقيل ذات الوقود بأبدان الناس (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) الذين حفروا هذه الأخاديد قعدوا عليها حين القوا فيها المؤمنين. وفي الأحاديث الصحيحة كما في مسلم قصة هؤلاء المؤمنين الذين تسلط عليهم ملك ظالم كان له ساحر ظلما عظيما وفتنهم إلى حد أن حفر لهم أخاديد وأوقد نارا عظيمة وألقاهم فيها لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله إن هؤلاء المؤمنين ثبتوا ولم يغيروا ولم يبدلوا قال القرطبي قال علماؤنا: اعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية ما كان يلقاه قبلهم من وحد الله من الشدائد يؤنسهم بذلك وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في حق إظهار دعوته حتى نشر بالمنشار وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا عن دينهم. قال ابن العربي وهذا منسوخ عندنا وقد ناقش هذا الرأي القرطبي وفصل في ذلك القول مما يمكن مراجعته ومراجعة قصة أصحاب الأخدود مفصلة مما لا يتسع المجال لإيراده في هذا الحيز الضيق. (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله وقيل غير ذلك ومن ذلك انه روي أن الله قبض أرواح الذين القوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود وقيل إن المؤمنين نجوا وأحرقت النار الذين قعدوا. (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي حضور أورد القرطبي أن الكفار كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين فمن أبى القوه في النار. قوله تعالى (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وسبب النقمة على هؤلاء المؤمنين هو إيمانهم بالله الغالب المنيع المحمود في كل حال (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا شريك له فيهما ولا ند (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم بأعمال خلقه لا تخفى عليه منهم خافية. قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فتنوهم بالإحراق بالنار ويقال دينار مفتون ويسمى الصائغ الفتان، ويقال فتن الدينار أي ادخله في النار لمعرفة جودته. ثم يقول جل من قائل (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) من فعلوا ذلك الصنيع الشنيع ولم يتوبوا من فعلهم ذلك فجزاؤهم عذاب جهنم وذلك لكفرهم (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) قيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق والحريق هم اسم من أسماء جهنم. ثم يقول جل من قائل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إن من آمن بالله وبما انزل على رسله عليهم السلام وصدق بما جاؤوا به وعمل الصالحات هكذا بالجمع باعتبار أن الصالحات من الأعمال لا حد له ولا حصر وفعل الصالحات هو المحك العملي لصدق الإيمان ورسوخه، من كانت هذه حالهم وتلك صفاتهم أعد الله لهم في الآخرة جنات أي بساتين خضراء فيها أشجار وثمار، وتجري من تحت هذه الجنات انهار هكذا في العموم والإطلاق من ماء ولبن وعسل وغير ذلك من وجوه التنعيم إن ذلك هو الفوز العظيم الذي لا يشبهه فوز. قوله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ). إن عذاب الله وبطشه لا يشبهه بطش أو عذاب، فالله تبارك وتعالى عندما يأخذ الجبابرة يأخذهم اخذ عزيز مقتدر، إن بطش ربك جواب للقسم وتقديره والسماء ذات البروج إن بطش ربك لشديد. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فهو سبحانه وتعالى من يبدأ الخلق وهو من يعيدهم أي يبعثهم. (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي يستر الله عباده فلا يفضحهم (الْوَدُودُ) المحب لمن تولاه من عباده وقيل المتودد إلى أوليائه بالمغفرة. (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قال القرطبي أي ذو الملك والسلطان. (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) أي كل شيء يريده يتحقق. قوله تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) هل بلغك يا محمد خبر من كذبوا الأنبياء وذلك لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابه من تكذيب ومعاندة وقع مثله لكل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام فقد عرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما فعله بأولئك المكذبين فرعون وثمود (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) إن الذين لا يؤمنون في تكذيبهم لك مثلهم من سبقوا والتنصيص في الآية على ثمود لأنهم من بلاد العرب وفرعون أمره مشهور فاتخذهما الله مثلا لتعذيب كل من يكفر ويكذب برسله وبما جاؤوا به. قوله تعالى (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) إن الله تبارك وتعالى قادر على أن ينزّل بالكافرين عذابه وعقابه فهو محيط بهم لا يخرجون عن علمه وإحاطته بهم وأخذه لهم فذلك جزاؤهم على ما قدمت أيديهم. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) قال القرطبي: أي متناه في الشرف والكرم والبركة وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي مكتوب في لوح وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه وقيل هو أم الكتاب ومنه أنتسخ القرآن والكتب وقيل اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة وبيان أمورهم وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والأقضية النافذة فيهم ومآل عواقب أمورهم وهو أم الكتاب وقال ابن عباس أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ “إني أنا الله لا اله إلا أنا محمد رسولي من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليتخذ إلها سواي” وقيل في اللوح المحفوظ شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه وقد أورد كل ذلك وغيره مما اختصرناه القرطبي في تفسيره لسورة البروج في الجزء السابع عشر من الجامع لأحكام القرآن وما ذكرناه فيه الكفاية والله تبارك وتعالى أعلم.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.