مداخلة حول وقت صلاة الجمعة

مداخلة حول وقت صلاة الجمعة


ألقيت في الندوة العلمية التي أقامها مركز التربية الإسلامية بباريس فرنسا يوم السبت 18 مارس 2017

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وبعد،

          اسمحوا لي أيها السادة الحضور أن أبادر بتوجيه خالص الشكر إلى الأستاذ الجليل والداعية القدير والمربي الناجح والمؤلف الذي ملأت كتبه في مختلف مناحي الثقافة العربية والعلوم الإسلامية الرفوف، وهي اليوم بين أيدي العلماء والمربين وعموم القراء، أعني أخانا الشيخ صالح العود، كان الله له في جميع أحواله وأعانه ووفقه وأمده بالصحة والعافية ليواصل أداء هذه الرسالة التي محض لها حياته وسبل عليها كل طاقاته في تفان وإخلاص وتجرد لا يريد من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. أقول هذا أداء لواجب الشهادة ولسان حالي يردد (ما شهدنا إلا بما علمنا) بعيدا عن الأطراء والمدح ولكن عملا بالحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).

          لقد لبيت دعوة الشيخ صالح العود الذي ألح عليّ بالمشاركة في هذا اللقاء العلمي الفقهي لبحث مسألة قديمة نراها اليوم تتجدد وقديما قيل لم يترك السلف للخلف شيئا.

          لقد اختار الاستاذ صالح العود للقائنا هذا موضوعا لمس الاختلاف فيه والذي قد يصل إلى درجة التنازع فأراد أن يفصل فيه القول إرشادا للأمة خصوصا في هذه الربوع التي تحتاج أشد الاحتياج إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف حتى تعطي الصورة الحقيقية التي ينبغي أن تكون عليها الأمة امتثالا لأمر ربها في عديد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إلى ضرورة أن تكون حالا ومقالا: أمة واحدة لا تتنازع ولا تختلف (وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

          والناظر في تعاليم الإسلام وهديه القويم في الأوامر والنواهي يجدها جميعا مبنية على مراعاة المصلحة واعتبارها ودرء كل مفسدة والحيلولة بينها وبين أن يقع فيها المسلم، فالأمور بمقاصدها ومآلاتها.

          ولا يختلف اثنان أن في جمع الكلمة ولم الشمل والاتحاد في الفعل والممارسة تبدو جلية في العبادات، في أدائها جماعة لما في الاجتماع من ترسيخ لوحدة الأمة يبدو ذلك في شعيرة الصيام كما يبدو في شعيرة الحج ويبدو بشكل أوضح وأجلى وأدوم في الصلاة سواء الصلوات الخمس أو العيدين أو الجنازة أو الاستسقاء فضلا عن صلاة الجمعة التي خصها الله تبارك وتعالى وخص اليوم الذي تقام فيه بفضل كبير نصت عليه آيات الكتاب العزيز والأحاديث النبوية الشريفة يقول جل من قائل: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [الجمعة الاية 10]، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خير يوم طلعت عليه الشمس (الجمعة) فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) رواه مسلم، وقال: (فيها (الجمعة) ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه) رواه البخاري.

         وأحاديث الترغيب في بيان فضائل الجمعة: يومها وشهود صلاتها كثيرة عديدة مذكورة في كتب الحديث  لا يتسع المجال لاستعراضها ويكفي دلالة على خطورة الاستهانة بها والتقاعس عن آدائها والسعي إليها مستوفاة الشروط أن نذكر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حيث قال عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين).

          ويريد هذا اللقاء أن يرشد إلى ما هو الأصوب والأوفى بتحقيق مقاصد الشريعة ومراد الله من عباده في آداء صلاة الجمعة في وقت يكاد يتحقق فيه وحوله الإجماع؟ أم التفويت في هذا المقصد اتباعا لقول أو رأي يحتمل الصواب ولكن احتمالات الخطأ فيه واردة وبقوة بينما يقابل ما يكاد يبلغ الإجماع الذي يعاضده النقل الثابت ويهدي إليه التفكير القويم السليم والممارسة الفعلية المعيشة والتي تعددت رواياتها ويصعب أن تتواطأ على الخطأ.

          لا يفهم مما نقول نكران الأجر والثواب على المجتهد في إيراد النقل وإبداء ذلك الفهم (إذ من  اجتهد وأصاب له أجران ومن اجتهد ولم يصب له أجر واحد).

          ولكن الذي ينبغي مراعاته هو الحرص على أن تبقى الأمة مجتمعة على الأقل في أداء شعائرها خصوصا في عبادة يلاحظ حتى في الأحرف المكونة لها معنى الجمع والاجتماع الذي يتعارض مع الاختلاف والتفرق أعني الجمعة انطلاقا من وقت أدائها.

          وبالعودة إلى النصوص الحديثية المبينة لوقت صلاة الجمعة والتي منها ما جاء في صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال:    (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعة حين تميل الشمس، ومعنى الميل هو انتصاف النهار أو الزوال عندما يتقلص الظل ويتناقص ليزيد فان تناهي نقصانه هو الزوال كما تفيده التجربة المعتادة).

          وقد عاضدت حديث البخاري الآنف الذكر أحاديث أخرى احتج بها القائلون بأن صلاة الجمعة لا تصح إلا بعد الزوال فقد روى جابر -رضي الله عنه- قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا زالت الشمس صلى الجمعة).

          *وحديث مصعب بن عمير الذي رواه الدارقطني والذي أذن فيه له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجمعة بالمدينة حيث قال له: (فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين).

          ولعل ماتى وسبب معارضة القول بأن وقت صلاة الجمعة إذا زالت الشمس ما ورد من أحاديث تفيد أن الجمعة كانت تؤدى وينصرف منها ولم يمتد الظل ولم تتضمن تلك الروايات لفظ الظل الملازم عادة للزوال واحد علاماته الصريحة والتي منها رواية أنس -رضي الله عنه- قال: (كنا نصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نرجع إلى القائلة فنقيل) أخرجه الإمام أحمد.

          وكذلك رواية سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: (كنا نصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) متفق عليه.

          وكل هذه الروايات التي لا تورد كلمة الزوال وتذكر مقابل ذلك أنهم يرجعون بعد آداء صلاة الجمعة إلى القيلولة وعدم وجود ظل يستظل به مما قد يوحي بأن صلاة الجمعة كانت تؤدى قبل الزوال وهو فهم بعيد لا يعني سوى أن وقت القيلولة لا يزال ممتدا وأن الظل لم ينتشر بعد بالقدر الذي يستظل به وقد ترجم الإمام البخاري (وفقه البخاري في تراجمه) (باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس).

          والآثار التي استند عليها الجمهور في أن صلاة الجمعة وقتها الصحيح إذا زالت الشمس وهو الوقت الذي صلاها فيها الشيخان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

          جاء في موطأ إمام دار الهجرة عن مالك بن أبي عامر قال: (كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشيها ظل الجدار خرج عمر)، أي لأداء صلاة الجمعة وبذلك قال ابن عباس -رضي الله عنه-: (فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر)، وعلى هذا الرأي سار السلف خرج ابن أبي شيبة عن طريق الوليد بن العيزار قال: (ما رأيت إماما كان أحسن صلاة الجمعة من عمرو بن حريت فكان يصليها إذا زالت الشمس).

          وقد أخذ بهذا الرأي أي آداء صلاة الجمعة إذا زالت الشمس جمهور العلماء من الأئمة الأعلام الذين جمعوا إلى الروايات الصحيحة المتعددة التي يكاد يتحقق بها الإجماع الدراية وهو ما يسمى بفقه الحديث أي الفقه بمعنى الفهم العميق الذي به يتحقق للأمة اجتماع صفها ومرضاة ربها دافعين بالحجة والبرهان كل ما يمكن أن يكون سببا في التفرق والاختلاف.

          فجمهور الصحابة والتابعين ومن اقتدى بهديهم من العلماء ساروا على نهجهم وقالوا بآداء الجمعة بعد الزوال، قال بهذا الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي حيث لا تصح عندهم الجمعة قبل الزوال، وسايرهم في القول بأن صلاة الجمعة لا تقام قبل الزوال كبار علماء الأمة من مختلف المذاهب: أحنافا ومالكية وشافعية بل وكبار علماء المذهب الحنبلي، وقال بهذا الرأي الإمام النووي والقرطبي والصنعاني والعيني وغيرهم كثير جميعهم حكوا الإجماع بأن وقت صلاة الجمعة هو بعد الزوال وأنها إذا أديت قبل الزوال فهي مخالفة ومعارضة لشروط الوجوب والصحة والتي هي دخول الوقت الوارد في الآية الكريمة (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) أي صلاة بما فيها صلاة الجمعة لا يصح أداؤها قبل حلول وقتها فإن النداء إليها الذي يكون بالآذان (إذا ناديتم إلى الصلاة) (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) ولا يكون الآذان فضلا عن الصلاة إلا بدخول الوقت.

          والقول بجواز أدائها قبل الزوال اعتمد على ما ورد في فضيلة التبكير إلى الجمعة والسعي إليها من مثل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري. فهذا الحديث وغيره من الروايات مثل (كنا ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) (وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) كل تلك الروايات أولها العلماء بمعنى المسارعة إلى آداء صلاة الجمعة في أول وقتها لا أداءها قبل الزوال، وقد جرى على ذلك عملهم وكانت عادتهم أن لا يتغذوا ولا يقيلوا إلا بعد صلاة الظهر الذي هو وقت صلاة الجمعة وكانوا يفعلون ذلك بالنسبة لصلاة الجمعة صيفا وشتاء في حين أنهم كانوا يبردون بالنسبة لصلاة الظهر الذي هو وقت صلاة الجمعة، أما عدم الاستظلال بالظل فذلك على معنى عدم امتداد الظل بالقدر الكافي أذ أن ذلك لا يكون إلا بعد مضي وقت كاف لذلك ولم تكن جدران المنازل عالية حتى يمتد الظل بالقدر الكافي للاستظلال بمجرد دخول الزوال.

          يقول الإمام ابن رشد موجها للنصوص والروايات (وجب من طريق الجمع بين هذه الآثار أن تحمل على التبكير إذ ليست نصا في الصلاة قبل الزوال وهو الذي عليه الجمهور)، ومستند القائلين بجواز آداء صلاة الجمعة قبل الزوال ما جاء عن التابعي عبد الله بن سيدان السلمي قال: (شهدت الجمعة مع أبي بكر -رضي الله عنه- وكانت صلاته وخطبته قبل منتصف النهار ثم شهدتها مع عمر -رضي الله عنه- فكانت صلاته وخطبته، ثم شهدتها مع عثمان -رضي الله عنه- فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره) رواه الدارقطني. وقد تناول العلماء بالنقد والتمحيص هذه الرواية التي اعتمدها الإمام أحمد في القول بجواز آداء صلاة الجمعة قبل الزوال.      

          وفيما ذكرناه وأوردناه مختصرا في هذه المسألة (وقت آداء صلاة الجمعة) من أقوال العلماء وما اعتمدوا عليه من نصوص الحديث والآثار ما يكفي للتمسك بما ذهبوا إليه من أن وقت صلاة الجمعة جرى به العمل قديما وحديثا هو بعد الزوال ولا يخفى ما في الأخذ به واعتماده والسير عليه من توحيد الأمة وجمع لكلمتها التي لا يمكن أن تكون مجتمعة إذا كانت مختلفة متنازعة في ما جعله الله تبارك وتعالى من أسباب هذا الاجتماع وأسسه أعني به آداء العبادات بكيفية وزمن موحد وهو الأمر الذي ظل محل اعتراف وإعجاب وتقدير المنصفين من غير المسلمين الذين لم يتهيأ لهم ذلك في شعائرهم وتهيأ بفضل الله ثم بفضل سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء الأعلام وهو فضل من الله ونعمة ينبغي علينا أن نحفظها ونحافظ عليها وقاية وحماية لوحدة الأمة واجتماع كلمتها على الأقل في شعائر دينها الذي هو عصمة أمرها والذي فيه مرضاة ربها.

          أجدد في خاتمة هذا العرض المختصر الذي أتيت فيه على مجمل ما في هذه المسألة (وقت صلاة الجمعة) علما بأن هذه القضية قد أشبعها العلماء درسا وتمحيصا على غرار كل المسائل الدينية وهي في مضانها لمن يريد أن يتابع جزئياتها وتفاصيلها وحسبنا في هذه الندوة المباركة التي نظمها مركز التربية الإسلامية ومديره فضيلة الشيخ الأستاذ صالح العود مشكورا إنارة وتبصيرا وإرشادا في هذه القضية وأمثالها من القضايا التي أعتنى بها ونبه فيها إلى الصواب والله الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.

          وشكرا على حسن استماعكم

                                                                                                                                      محمد صلاح الدين المستاوي

                                                                                                                                      باريس في 18/3/2017



 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.