في رحاب القرآن الكريم : الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة

في رحاب القرآن الكريم : الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة


سأتطرق إلى مثل من تلك الأمثلة الكثيرة الرائعة التي يضربها المولى سبحانه وتعالى لعباده ليوقفهم على كثير من الحقائق المجسمة، التي تفيدهم في عاجل أمرهم وآجله (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون) وما أكثرها تلك الأمثال وما أدق محتواها. وكم من أسرار عميقة وكنوز ثمينة اشتملت عليها في شتى ميادين الحياة وفي شتى ضروب المعرفة واليقين وليس المهم سردها وتلاوتها لمجرد التعبد والتبرك فهي أعظم من ذلك بكثير. إنما المهم استجلاء غوامضها. واستخراج أسرارها وحقائقها والانتفاع بما فيها من خيرات لا يزيدها الإنفاق إلا نماء وبركة فهيا معي لنقرا مع بعضنا في تأمل وإمعان قوله سبحانه وتعالى (الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) “فهل ترى من تشويق إلى الطيب من القول يوازي هذا التشويق أو يدانيه؟ وهل ترى من تنفير من الكلم الخبيث الذي يترك أثرا سيئا في النفوس هو كهذا التنفير والتفضيع والتنديد؟ انه الإعجاز البياني الذي ينبع من أعماق الحقيقة، انه التصوير الفني الذي يتسامى في أجواء البلاغة ويحلق في سماء الخيال الفني ثم هو في تحليقه لا يصبح بعيد المنال على أصحاب الملكات المحدودة فيكفي لإدراكه والتفاعل مع حقائقه أن يتجرد الإنسان من ظلمات نفسه ومن كثافة روحه، انك تقرا هذه الآية وتكررها آلاف المرات فلا تشعر بسآمة وملل ولا تستوفي تأملاتك العميقة الهادئة ما فيها من روعة لفظية أخاذة وما فيها من إقناع يسلب من القارئ إذعانه وإيمانه أي ترغيب في التفوه بالعبارات الجميلة الطيبة التي تترك في نفوس السامعين انفعالا طيبا كهذا الترغيب، إن ما يتفوه به الإنسان من أقوال هي مقدمات طبيعية لما يترتب عليها حتما من أفعال ونتائج ضرورة لها ومترتبة عنها فبالكلمة الواحدة تضرم نيران الفتن المتأججة التي تأتي على الأخضر واليابس وتأكل المال والرجال وبالكلمة الواحدة تحقن الدماء وتعقد الأحلاف وتربط الأواصر وتتوثق الصلات فيكف لا تكون الكلمة الطيبة تنبس بها الشفة الطيبة وتنبع من أعماق القلب الطيب لتصل إلى نفوس متهيئة لقبول الطيب وإنباته وتغذيته. كيف لا تكون هذه الكلمة شديدة الشبه بتلك الشجرة المثمرة التي ضربت جذورها في أعماق الأرض فأصبحت متمكنة لا يزعزعها الإعصار ولا تحطمها الرياح وذلك الأثر من الكلمة مدرك ومفهوم لقد تمكنت الشجرة من الأرض وبعثت بعروقها يمينا وشمالا لتجلب لها القوة والمنعة والحصانة ولتجلب لها أيضا ما به قوام الحياة من غذاء وشراب وليس للتشبيه من معنى إذا لم يكن لصاحب الكلمة الطيبة وللكلمة ذاتها نفس القوة والمنعة والحصانة والتمكين في الأرض وعين تلك السعة والتنعم بلذيذ العيش. أي عاقل يرى ويسمع هذا التنظير الجميل ولا ينصب على شفتيه حارسا شديد المراس قوي الشكيمة من الضمير الرادع والعقل الواعي ليكون بالمرصاد من ذلك اللسان الذي قد يحاول أن يكون ثعبانا أو شيطانا فيلقمه حجرا كلما حاول أن يخبث أو يتخابث، الكلمة الطيبة تزرع الحب والاحترام وأي سعادة في الكون ليس الركن الأساسي فيها الحب والاحترام، الكلمة الطيبة تحمي لحمة القرابة والصداقة من أن يتسرب إليها الضعف والوهن وأي لذة للعيش إذا لم تكن مجالس الأقرباء والأصدقاء معطرة بطيب المودة والإخاء. الكلمة الطيبة تجعل الإنسان يتنازل عن بعض حقوقه، ويضحي ببعض مصالحه وأي انسجام في أي مجتمع إذا لم تكن هناك تنازلات متبادلة بين أفراد ذلك المجتمع الواحد الذي نريده ويريده الله أن يكون متماسكا قويا، الكلمة الطيبة تبعث في المرؤوس روحا خلاقة للعمل والإنتاج وعزيمة صادقة للتضحية والإيثار وأية امة تزدهر مشاريعها وتنجح مخططاتها بدون عمل وإنتاج وبغير تضحية وإيثار. وبالتالي الكلمة الطيبة لا تقتصر على هذه المعاني الأرضية وحسب، بل تأبى إلا أن تخترق الحجب وتسمو إلى حيث الطهر والجلال إلى النور إلى الخلود السرمدي والعزة الدائمة إلى حيث تدعونا آيات رب العزة ببيانها الجهير وإحكامها البديع إلى نصر عزيز وفتح مبين في ارض الله العميقة الأغوار الممتدة الأطراف. وفي سمائه الفسيحة الأبعاد الصعبة المرتقى، (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) فما بيننا وبين إدراك الأشياء على حقائقها إلا أن نتذكر ونتفكر ونتفقه ويا لها من نعمة سابغة عندما نعلم علم اليقين أن آلة التذكر والتفكر والفقه هي بين أيدينا وليست مستعارة أو مستأجرة أو غائبة أو مفقودة، إن وجه الشخص لتعتريه حمرة الخجل عندما يرى باحثا عن الماء في لهفة فيقال له الماء فوق ظهرك فيمد يده لسحبه ويشرب، فماله لا يخجل عندما يدرك انه مجنون وعقله معه وأعمى وعيناه في رأسه وأصم وأذناه مفتوحتان (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور) ألا يستحي أولئك الذين يهرفون بما لا يعرفون أولئك المعاتيه الذين يطلقون لألسنتهم أعنتها ألا يخلجون عندما يسمعون قول الله تعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار) وأي قرار لأصحاب الكلمات الخبيثة المليئة عهرا ودعارة”إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" أي سماء تظلهم وأي ارض تقلهم لقد لفضتهم المجتمعات لفض النواة فأصبحوا نفاية لا يؤبه بها ولا يقام لها وزن ليتهم ارعووا عن غيهم وفكروا في حالهم ومآلهم إذن لأراحوا أنفسهم وأراحوا الناس من شرورهم وآثامهم والله الهادي إلى سواء السبيل.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.