اثر القرآن الكريم في بناء شخصية الفرد المسلم في صدر الإسلام

اثر القرآن الكريم في بناء شخصية الفرد المسلم في صدر الإسلام


الحمد لله الذي من اعتصم به نجى ومن أطاعه كفى ومن استهداه هدي إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على من انزل عليه القرآن وهدى ورحمة وموعظة للمتقين. والحمد لله الذي جعل لنا مواسم وأعيادا خصنا فيها بالرحمة والتوبة والغفران وتجاوز عنا فيها عما قدمت أيدينا من الخطايا والذنوب. فلله الحمد أولا وآخرا وله الشكر على توفيقه وعونه وتأييده ولولا إعانته لكنا من الغافلين المضيعين لحقوق رب العالمين وللقرآن في حياة المسلمين اثر كبير ومفعول عظيم فهو النور المنزل من رب العالمين والبرهان الساطع والدليل القاطع على نبوة سيد الأولين والآخرين وأمانة الله بين يدي عباده ومحبته عليهم يوم يوقفهم بين يديه للحساب. لا تنقضي عجائب القرآن ولا تنقضي فوائده، أذعن لروعته وبلاغته الإنس والجن ومن آمن منهم ومن كفر وما ذلك إلا لأنه كلام رب العالمين المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلقه. كان دور الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه لا يحيد ولا يزيد ولا يحرف ولا يؤول وهل لا يستطيع إن يتقول عن ربه ولو بعض الأقاويل وكيف ذلك وللحرف وللكلمة والسورة من القرآن من الثقل والسر ما لو انزل على جبل من صخر شديد لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله. لم يملك عقلاء الناس وبلغاؤهم في القديم والحديث إلا أن قالوا حاشا أن يكون القرآن كلام بشر: ساحرا أو شاعرا. آمن به من شرح الله صدره للإسلام وكفر به من جعل الله صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. تلقاه عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أصحابه الكرام فاتخذوه دستور حياتهم ومقوم سلوكهم ومرجع اختلافهم فصدق فيهم قول ربهم سبحانه وتعالى “إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون” وما ذلك إلا لأنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه ابن مسعود رضي الله عنه (إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا على مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء الناجع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق مع كثرة الرد اتلوه فان الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف). مر السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات القرآن تتلى عليهم فعقلوها فكان الواحد منهم قبل سماع القرآن والإيمان به يعيش في جاهلية جهلاء وظلمات بعضها فوق بعض وما إن دخل قلبه القرآن بنوره المبين حتى تبدل حاله وتغيرت كل تصرفاته، لقد كان الواحد منهم لا يختلف عن السوائم من الحيوانات غليظ القلب قاسي المشاعر تنطوي نفسه على كل صنوف الفساد والشر يشرك بالله ويكفر به ويقطع الأرحام ويسئ الجوار ويخون العهود والمواثيق ويكذب ويفتري ويظلم ويعتدي فلما استنار قلبه بالإيمان أصبح رقيق المشاعر قوي العاطفة غزير الدمع شديد البكاء من خشية الله يسالم الناس فلا يعتدي عليهم ويصل رحمه فلا يقطعه ويكرم ضيفه ويجير من استجاره ويعين من استعان به ويطعم من استطعمه لوجه الله “إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا”. لقد كانت حال الناس قبل تنزل القرآن وبعثة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام كما صورها القرآن حين قال “واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”. نعم لقد كنت ترى الفتى أو الرجل الكهل فلا ترى فيه إلا الغلظة والشدة والعدوان والعصبية العمياء والأنانية المفرطة والشراسة في الطبع والخلق حتى مع اقرب الناس إليه لا يضمر إلا حقدا أو شرا ولا يفعل إلا ظلما وقهرا ولا ينطق إلا لغوا ولا يأتي إلا فجورا كأنه المعني بقوله جل من قائل على لسان الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) تلك حال الإنسان قبل أن يدخل الإسلام ويشرق قلبه بأنوار القرآن فتملأ عليه كل نفسه والأجواء المحيطة به. سارع المسلم الأول إلى تلقي القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد جاءكم كتاب فيه ذكركم” فسعى إليه واقبل عليه ينهل من معينه العذب الذي لا ينضب ويكرع من انواره المشعة التي لا تبقى معها ظلمة في النفس فإذا به يتغير ويتبدل وإذا الرقة تحل مكان الشدة والرحمة محل الغلظة وإذا اللطف والوئام والمحبة تحل محل القطيعة والعدوان والتنابز بالألقاب وإذا السباب واللغو والخصام يحل محله اللسان الرطب بذكر الله فصرت ترى للمسلمين في بيوتهم ومساجدهم وساحات قتالهم دويا بالقرآن كدوي النحل يبيتون لربهم سجدا وقياما وإذا مروا باللغو مروا كراما لا يطلبون إلا جزاء الله ورضوانه. أيقن كل مسلم أن صلاح أمره في عاجل دنياه واجل آخرته لا يكون إلا بالوقوف عند حدود الله بإتيان ما أمر والاستغناء عن كل ما نهى عنه سبحانه وتعالى. وقف المسلم من نفسه موقف الرقيب وحاسبها الحساب الشديد والزمها سبيل الطاعة والتقوى فالتزمت بعون من الله وتسديد منه. لقد رأى المسلم اثر القرآن وتأثيره في كل حياته فاطمأن قلبه بعد أن كان خاويا “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” وامن من الخوف بعد أن كان جزعا واطعم واشبع بعد أن كان جائعا “لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، وإذا العزة والغلبة والنصر على الأعداء وعلو الشأن تحل محل الضعف والمهانة والمذلة والهزيمة. نظر المسلم الأول بعقله وقلبه إلى كل ما أمر به الله فلم يجد فيه أصرا ولا أغلالا ولا ضيقا ولا حرجا “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” ثم عمق نظرته فوجد في كل ما أمر الله به في كتاب الله صلاح حال الإنسان عقلا وروحا وجسما وصلاح دنياه وآخرته وتحقيق عبوديته لربه سبحانه وتعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون” ثم التفت المسلم الأول إلى كتاب رب العالمين يتلوه ويتدبره وينظر إلى ما حرم ربه عليه لينتهي عنه فلم يجد من بين ذلك إلا الخبائث والمفاسد التي تأباها كل نفس شريفة نظيفة “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن”. توجه المسلم إلى كتاب الله سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا راع أو رعية إلى القرآن فاتخذه دستور حياته ومقوم أخلاقه وميزان تصرفاته والحكم بينه وبين غيره فوجده لا يفرط في الصغيرة أو الكبيرة “ما فرطنا في الكتاب من شيء” يدخل إلى كوامن النفس ودواخلها فيجتث ويحارب نوازع الشر فيها من حقد وحسد وضغينة ثم يغرس في محلها طهارة ومحبة وصفاء وسلامة صدر ونقاوة “فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها” وبذلك ينفذ كلام الله العليم الخبير إلى ما تعجز أن تصل إليه أرقى القوانين البشرية والمذاهب الإصلاحية وتجعل للإنسان رقيبا من نفسه يجنبه التردي ويدفعه إلى الخير. ويلتفت إلى المسلم إلى القرآن الكريم فيجده يحكم كل تصرفاته وحركات جوارحه “إن السمع والبصر والفوائد كل أولئك كان عنه مسؤولا” وبذلك بعد طهارة القلب وصفائه جاءت سلامة الأقوال وحفظ الألسنة والأذان والأبصار عن أن تطول ما حرم الله عليها مما يتعلق بحقوق الغير. والتفت المسلم ثالثة إلى القرآن فيجده يسطر له منهج علاقاته مع أهله من والدين وأخوة وأقارب وزوجة وأبناء وذوي أرحام وجوار لكل طرف حقوقه وواجباته التي لا يتعداها ولا يتجاوزها وبذلك كفى المسلم عناء الاختلاف في تحديد الحقوق والواجبات.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.