هدي الإسلام في الإرشاد إلى التغذية المتوازنة

هدي الإسلام في الإرشاد إلى التغذية المتوازنة


تندرج عناية الاسلام بجسم الانسان ضمن الرؤية الشمولية التي تميز بها هذا الدين الحنيف بحيث لم تفرط تعاليم الاسلام في الصغيرة أو الكبيرة ولم تترك شاردة ولا واردة سواء كان ذلك عن طريق النصوص القرآنية أو النبوية وما أكثرها أو كان ذلك عن طريق ما يستنتج منها ويستنبط بواسطة الاجتهاد قياسا واجماعا واستحسانا وعملا بالمصلحة المرسلة التي هي باب واسع فتحه الاسلام بواسطة علمائه الأعلام لاتخاذ كل ما من شأنه أن يدفع ضررا عن الانسان أو يجلب له مصلحة وذلك هو الذي يجعل من تعاليم الاسلام وتشريعاته وهديه القويم صالحة لكل زمان وكل مكان. *العناية بالأجسام واجب وإهمالها أو إتلافها حرام: وهذه العناية الصحية بالانسان جعلها من صميم الدين الحنيف بل جعل كثيرا من العبادات ومقدماتها محققة للسلامة البدنية للانسان (الطهارة-الصلاة-الصوم...) وذلك يدل على المنزلة الرّفيعة للانسان في دين الاسلام، فالانسان في الاسلام مكرّم مبجّل محفوظة كل حقوقه (ولقد كرمنا بني آدم) آية70 سورة الإسراء والانسان في الاسلام مفضّل ومقدّم على أتقى مخلوقات الله وهم الملائكة (وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) الآية30 سورة البقرة والانسان في الاسلام إذا كان عاقلا بالغا معافى مسؤول على نفسه وأمام ربّه سبحانه وتعالى ولأجل ذلك فهو مدعوّ للعمل بكل ما في وسعه للحفاظ على حياته التي ليست ملكا له، فالله هو المحيي وهو المميت ولأجل ذلك حرّم الاسلام على المسلم قتل النفس البشرية (نفس الغير) ومن قتل نفسا واحدة فهو كمن (قتل الناس جميعا) ولكنه أيضا محرم عليه قتل نفسه (الانتحار) لأيّ سبب من الأسباب لأن اليأس والقنوط لا يجتمعان مع الإيمان في قلب مسلم (إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون) لأجل ذلك فإن الانسان المسلم رغم اعتقاده بأن الأجل مقدّر ومعلوم عند الله (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ومع ذلك فإنه عليه كمسلم أن يسعى من أجل ان يكون جسمه سليما معافى إلى آخر رمق في حياته وهو محقّق لهذه الغاية في أغلب الأوقات بالامتثال لأوامر ربّه: اجتنابا وإتيانا، وحتى إن أصيب بدنه بمرض أو علّة فإنّه ليس من هدي الإسلام ولا من توجيهه أن يترك الحبل على الغارب فيترك الأخذ بالأسباب بدعوى أن ذلك مقدّر، وبدعوى أنّه متوكّل، فالقدر علم الله، والتوكّل على الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، وهذا ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وللأمة من ورائه عندما ترك ناقته طليقة ولم يعقلها بدعوى أنه متوكل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعقلها وتوكل) وزاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر جلاء ووضوحا بتقديم المثل حيث قال: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كالطير تغدو خماصا وتعود بطانا) ورغم أن هذا النص وما شابهه يكفي إلى دفع المسلم إلى العمل من أجل تغيير ما به من مرض أو ضعف (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم) إلاّ أنه ونظرا لأهميّة الصحة البدنية ووجوب التداوي والعلاج ورد التنصيص الموجب لذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام (تدووا فإن الله عزّ وجلّ لم يضع داء إلاّ وضع له شفاء) رواه البخاري في الأدب المفرد *التوسط والاعتدال في رعاية الأجسام: والمتتبع لهدي الاسلام في المجال الصحي ينتهي إلى ان مرحلة العلاج والمداواة للأمراض والعلل التي يمكن أن يصاب بها الجسم يسبقها وعي وتحمل للمسؤولية وإدراك لكُنه الحياة وغايتها وقناعة راسخة بأفضلية مسلك الوسطية والاعتدال والاتزان الذي تميزت به كلّ تعاليم الاسلام لتجعل من أمة الاسلام الأمة الوسط كما أرادها الله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) الآية 134 سورة البقرة، لأنّ في هذه الوسطية في كلّ شيء انطلاقا من ذات وكيان الفرد المسلم إقامة للحجة على الناس وتقديم للنّموذج الجدير بالإقتداء والأسوة به ولذلك قال جلّ من قائل (لتكونوا شهداء على الناس) والخطاب في الآية للجماعة ولكن لا جماعة بدون فرد سليم سالك للطريق المستقيم والمنهج القويم الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا ضرر فيه ولا ضرار والذي يستجيب لكلّ أبعاده الانسان. والمسلم الحق هو الذي يؤدي كل الحقوق التي عليه (إن لنفسك عليك حقا) البخاري (إن لجسدك عليك حقّا) متفق عليه دون أن يهمل بقيّة الحقوق الأخرى: حقّ الله وحقّ الأهل وغيرهما... ومن حقّ الجسد على المسلم أن يرعاه الرعاية الشاملة والتامة في كل مراحل تكونه ونموه وذلك باجتناب كل ما يخلّ بهذه الرعاية وإتيان كل ما يجعل هذه الرعاية للجسد تكون تامة محققة للمأمول والمطلوب من المسلم : من قوّة وعافية ونظافة وجمال مظهر ومخبر (فالمؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف) والله تبارك وتعالى (يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) والتجمل مطلوب من المسلم فالله جميل (و يحب الجمال ). *للجسد غذاؤه مثلما أن للروح غذاؤها: وإذا كان غذاء الأرواح هو التقوى والعبادة بكل مظاهرها وأشكالها وإذا كان المسلم مدعوّا إلى التزود للوقوف بين يدي الله بخير زاد (وتزوّدوا فإن خير الزّاد التّقوى) فإنه لكي يستطيع مواصلة هذه الرّحلة في الحياة الدنيا إلى آخر لحظة فيها فإنه عليه أن يتزوّد لها بما يحفظ سلامة وعافية وقوّة هذا الجسد انتهاء عن كلّ المهلكات والمضار الموبقات والتي سمّاها الإسلام الفواحش وهي محدودة في عددها بالنسبة لما أحلّه الله للمسلم من وراء ذلك من الطيبات وبعد الانتهاء يأتي الأمر بالإتيان والأخذ من الطيّبات وقد ورد ذلك في عديد الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة تنصيصا، والتنصيص مقصود رغم أنّ الشأن في الأمور الجبلية الخلقية الغريزية هو أن يأتيها الانسان دون حاجة إلى أن يأمر بها ولكن الله تبارك وتعالى يدعونا بإلحاح لما يحيينا. ولذلك استنكرت الآيات القرآنية كل اعتقاد بأن التشديد على النفس والتضييق عليها وحرمانها وتحريم الطيبات عليها هو مما يريده الله من عباده. فقال جل من قائل (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) الآية32 سورة الأنعام وجاء الأمر بالأكل من الطيّبات في عديد من الآيات منها قوله جل من قائل (كلوا من طيّبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه) الآية 81 سورة طه، وقال (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وقال (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) آية5 سورة النحل. وقال (كلوا من ثمره إذا أثمر) آية 141 سورة الأنعام، إلى غير ذلك ممّا هو مفصّل ومبيّن في كتاب الله ومما ورد في سياقات متعددة تتظافر جميعها لإبراز معالم نظريّة غذائية متكاملة تنسجم مع بقيّة التوجيهات الأخرى في الميادين والمجالات ذات الصلة القريبة والبعيدة بالصحة والسلامة. على أن هذه النظرية لا تخرج عن الخصوصية التي ذكرناها سلفا وهي الاعتدال والتّوازن والتي يأتي الصيام المفروض أو المستحبّ ليتممها ويكملها ويحقّق بها مع التغذية والوقاية الشاملة مصداقية الحديث النبوي الشريف (صوموا تصحوا) وبالطبع الأمر هنا موجه للمكلفين من البالغين المعافين غير المرضى والمصابين فلهؤلاء أحكامهم التي تخصّهم. *إهلاك الأجسام يكون بحرمانها كما يكون بالإسراف والإكثار من الأكل: ولكي تؤتي التغذية نتيجتها المرجوّة لا بدّ أن تكون متوازنة فلا تقلّ إلى درجة الحرمان، وهذا الحرمان إذا كان يقدّم عليه القائم به بقصد وإرادة فهو من قبيل التعذيب للنفس المحرم في دين الإسلام إذ (لا رهبانية في دين الإسلام) (فدين الله يسر) و(لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وهذا الدين متين والمؤمن مأمور بأن يوغل فيه برفق فالله تبارك وتعالى يريد بنا ولنا اليسر (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) الآية 185سورة البقرة أما إذا كان هذا الحرمان خارجا عن نطاق الفرد لفاقة أو فقر وحاجة فالمجموعة المحيطة بذلك الفرد بداية بالأجوار وذوي الأرحام إلى كلّ أفراد المجتمع يتحمّلون مسؤولية ذلك (لا يؤمن بي من بات شبعانا وجاره إلى جانبه جائع) ومجتمع المسلمين هو مجتمع التضامن والتآزر ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى (يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه ) فالحدّ الأدنى الضروريّ ينبغي أن يضمن لكل من يعيش في مجتمع المسلمين وفي سبيل ذلك وفي أوقات العسر والشدة طلب من المسلم بأن يكتفي بما يسدّ رمقه ويحفظ حياته ليرد ما زاد على الحاجة على من حوله (فلن يهلك الناس على انصاف بطونهم)، و(طعام الواحد يكفي الاثنين) (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) ولكن الاسلام لا يعالج الفاقة والحاجة والحرمان والهلاك جوعا فقط بل يعالج أيضا الشطط في الطرف الآخر عند الوفرة ناهيا عن الإسراف والتبذير داعيا المسلم إلى القصد والاعتدال وترشيد استهلاكه لأن المبالغة حتّى في المباح الطيّب والإكثار منه إلى حدّ التخمة والبطنة مؤد لا محالة إلى أضرار بدنية ونفسية واجتماعية. والأضرار البدنية المتحققة من الإسراف في الأكل فقد عرفها القدامى ونبّهوا إليها وحذروا منها حين قالوا (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء) وانتهى إليها المحدثون من الأطباء والمختصين في التغذية الذين يؤكدون أن أحسن وصفة للوقاية من نسبة كبيرة من الأمراض والعلل والعاهات إنّما تتحقق بتوازن غذائي هو إلى الأدنى أقرب منه إلى الأقصى. *النظام الغذائي الإسلامي يلتقي مع آخر ما انتهى إليه الطب والعلم: واتفاق آراء القدامى والمحدثين تبرز روعة وواقعية وسبق تعاليم الاسلام وهدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام لتبين التطابق بين ما دعا إليه الاسلام وآخر ما انتهت إليه القواعد الصحية والغذائية. فقد قال عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى (ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطن ! بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة – وفي رواية فإن غالبت الآدمي نفسه- فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس) رواه الترمذي ولقد تمكنت اليوم عيادات كثيرة في بلدان متقدمة من معالجة نسبة عالية من مرضاها بنظام حمية ألزمتهم به لفترة عشرين أو ثلاثين يوما في السنة (وهو ما أوجبه الله على المسلمين سنويا) (كتب عليكم الصيام) أو بنظام مسترسل قوامه الأكل والشرب بدون إسراف أو مبالغة والتوقف عن الأكل و لا تزال في النفس بقية من رغبة في الأكل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال مادحا المسلمين المقتدين به (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا فلا نشبع) فالجوع المنظم والمبرمج أول مراحل العلاج بل هو الوصفة التي لا يتأخّر عن النصح بها أي طبيب أو غذائي مختص. والتخمة والشبع والإسراف في الأكل بمختلف أنواعه مظهر من مظاهر اتباع الهوى المؤذن بالهلاك (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) اتباع الهوى في هذا المجال – مجال الأكل والشرب يصبح في مرحلة من مراحل العمر مخاطرة ومهلكة لا محالة منها ولا محيد عنها، أعني بها مراحل الكهولة والشيخوخة، ففي هذين الطورين من عمر الانسان تهجم على الجسد قوى داخلية وخارجية مدمرة لا سبيل إلى مقاومتها إلاّ بسلامة وقوّة باطنية يحافظ عليها الاعتدال والتوازن والاستهلاك الرشيد والذكي العقلاني. *الحق في الغذاء السليم والمتوازن يبدأ من المرحلة الجنينية: غير ان ما يسبق الكهولة من شباب وطفولة وحتى مرحلة جنينية فإن المطلوب فيها لأنها مرحلة تكوين ونموّ –هو توفير كل ما يتطلبه الجسد من مكونات ومقويات ومغذيات قدم القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة عينات منها وانكب عليها أهل الذكر والاختصاص من المسلمين وغير المسلمين وأثبتوا أنها محققة للمطلوب والمرغوب الذي هو السلامة والعافية والمناعة والقوّة للأجساد التي هي وعاء الأرواح. ويتحمّل الآباء والأمهات بالخصوص مسؤولية توفير التغذية الضرورية واللازمة لأطفالهم بداية من مرحلة الحمل وهي بداية الحياة والتكوين المادي الجسماني والتي تتطلب من الأمّ الحامل طاقة وزادا أوفر وأدسم وراحة نفسية وبدنية لأن لكل ذلك انعكاساته على الجنين ولأجل ذلك أباح الإسلام للأم الحامل ان هي خشيت على جنينها، ومن باب أولى على نفسها –الضّرر أن تفطر رمضان ثم تقضي بعد ذلك ما فاتها كما تتحمل الأم عند الوضع مسؤولية تغذية وليدها ولذلك جاء الأمر لها بإتمام ارضاع طفلها (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) آية233 سورة البقرة وقد ثبتت اليوم عمليا تجريبيا وطبيا الفوائد الجمة للإرضاع الطبيعي من الأم لطفلها ولا يعوضه الإرضاع الاصطناعي ولا يخفى ما في الإرضاع من آثار نفسية ومعنوية في نحت نوعية العلاقة المستقبلية بين الأمهات وأبنائهن، ففي الرضاعة دفء ورحمة ورأفة وحنان وحبّ هي كلها أساس لبرّ الأبناء بأمهاتهم ولا تتوقف مسؤولية الآباء والأمهات في تغذية أبنائهم والتكوين الصحيح والسليم لأجسامهم بل تتواصل إلى أن يصبح هؤلاء الأبناء والبنات قادرين على القيام بأنفسهم أحسن قيام. وما يخشى منه على الآباء والأمهات ليس الإهمال والتقصير في القيام بالواجب نحو الأبناء فذلك ما يقع إلا نادرا، الذي يخشى منه الإفراط والمبالغة في الحنوّ والطاعة لكل أوامر ورغبات وطلبات الأبناء ولو كان ذلك على حساب صحتهم وسلامتهم وقوّتهم ولهذا دعي الآباء والأمهات إلى الرشد وتحمل المسؤولية كاملة تجاه أبنائهم بما يقتضي ذلك من حزم وعقلانية وبعد نظر يحمد ولا شك الأبناء بعد ذلك عقباها.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.