عناية الاسلام بالأسرة: خطبة الجمعة التي القاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بمسجد علي بفوبور سان دني Faubourg Saint Denis 3/11/2017

عناية الاسلام بالأسرة: خطبة الجمعة التي القاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بمسجد علي بفوبور سان دني Faubourg Saint Denis 3/11/2017


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

        الحمد لله حمدا لا غاية لمنتهاه وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة ينطق بها اللسان ويتيقن بها الجنان وأشهد ان سيدنا محمدا خير ولد عدنان عبد الله ورسوله صلاة وسلاما عليه دائمين متلازمين الى يوم الدين.

        أما بعد ايها المسلمون،

        يقول الله تبارك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم الاية21 ويقول جل من قائل (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) النحل72 صدق الله العظيم نعم الله وأفضاله لا تعد ولا تحصى ورد التذكير بها المرار العديدة في كتاب الله العزيز وهي في أنفسنا التي بين جنبينا وفي الآفاق المحيطة بنا (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ذكرنا الله بها لنقيدها بالشكر ولنحافظ عليها ولكي لا ننحرف عنها ونعبث بها.

        ومن المنن والنعم العظيمة هذه الألفة التي جعلها الله بين الزوجين: الذكر والأنثى، الرجل والمرأة فهما من نفس واحدة أي من نفس الجنس البشري الآدمي الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا

        شرع الله تبارك وتعالى التزاوج بين بني آدم وجعله الله ميثاقا غليظا ولحمة قوية متينة تتحقق بها السكينة والطمانينة وتنتج عنها المحبة والمودة ورغم ما قد يكون في الكثير من الأحيان من تباعد في الأنساب

        وقد حدد الاسلام للزواج أركانا وشروطا اذا استوفيت ووقع التقيد بها حفظت حقوق جميع الاطراف تبدأ ببيان من يجوز التزاوج بينهم ومن يحرم بينهم الزواج بالنسب وبالرضاع (اذ يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب) ولا يخفى ما في ذلك من الحكم والفوائد المادية والمعنوية وتجنيبا للطرفين المتزاوجين للمضار البدنية والمعنوية

        ويأخذ الاسلام بيد المسلم في بناء عش الزوجية باعتباره الخلية الأساسية التي اذا سلمت يسلم بنيان المجتمع كله والذي يتكون من أسر وعائلات.فصلاح الأمة بصلاح أسرها وصلاح الاسر بصلاح الأفراد الذين تتكون منهم الأسر بداية بالزوجين وأرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين الى الطريق القويم الذي اذا اتبعه المسلم والمسلمة نالا ما يريدانه من هناء ووئام ومحبة وانسجام وكل ذلك من أسباب سعادة المسلم في هذه الدار وفي الدار الآخرة يقول جل من قائل في سياق الدعاء الذي أرشد اليه العبد المسلم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قال المفسرون ان الحسنة التي يؤتيها الله للعبد المسلم في الدنيا هي الزوجة الصالحة، فمن هي يا ترى الزوجة الصالحة؟!

        هنا يأتي ارشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم الشاب المقدم على الزواج، والزواج سنة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول (من رغب عن سنتي فليس مني) فلا رهبانية في الاسلام اذ بالزواج يستمر عمران هذا الكون الى ان يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين وبالزواج يحفظ المسلم من الوقوع فيما يغضب الله من الحرام يقول عليه الصلاة والسلام (من تزوج فقد ملك نصف دينه) فسن الشباب هي مرحلة الزواج يقول عليه الصلاة والسلام (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج (الباءة القدرة البدنية والمادية للقيام بشؤون الزوجة والابناء)

        فمن التي ينبغي على الشاب أن يتزوج منها هنا يأتي الارشاد المحمدي القويم يقول عليه الصلاة والسلام (تنكح المرأة لمالها ولنسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)

        فالمال والنسب والجمال كل تلك أعراض لا يتحقق بها الهناء والسعادة وقد تكون سببا للاختلاف والنزاع وقد تؤدي الى ما يغضب الله

        *أما ذات الدين والخلق الكريم فهي التي تحقق السعادة ومرضاة الله سبحانه وتعالى كل ذلك يشهد عليه الواقع المعيش. وللآباء والامهات مسؤولية كبرى في سعادة أبنائهم وبناتهم إذ عليهم ليس فقط تقديم المساعدة والعون المادي وهذا ما يقومون به في أغلب الاحيان بما خلقه الله فيهم من عاطفة وحب للبنين والبنات الذين اعتبرهم الله من زينة الحياة الدنيا فتراهم يبذلون الغالي والنفيس وينفقون الأموال السخية في حفلات الاعراس التي تنقلب في كثير من الاحيان الى تفاخر ومباهاة واسراف وتبذير ما انزل الله به من سلطان وقد تنتهك في حفلات الزواج الاعراض وترتكب المحرمات في حين ان المساعدة والعون الحقيقي المفيد والذي يؤتي ثمرة الخير المرجوة من الزواج انما هو في حسن توجيه البنين والبنات الى سبب السعادة الحقيقية وسبب تحقيق مرضاة الله سبحانه وتعالى ومن هنا جاء التحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين لا يكترثون بالدين والاخلاق ويقدمون عليها الجاه والمال والجمال وغير ذلك من العروض الزائلة قال عليه الصلاة والسلام (اذا جاءكم (خاطبا) من ترضون دينه وأمانته فزوجوه الا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير) اذ في الامتناع عن تزويج البنات بالشروط المجحفة التي تشترطها الامهات والآباء يقع الاعراض عن الزواج ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الوقوع في الفساد الذي تنتهك فيه وبه الاعراض ويقع ما نشاهده !!

        فالزواج أحصن للشباب وذلك من واقعية الاسلام الذي تراعي تعاليمه ما خلق الله في الانسان من شهوات وغرائز والاسلام لا يغلق بابا في الشر والفساد الا و يفتح في مقابله بابا للخير يكتب به للمسلم الثواب والأجر حتى وهو يستمتع بالحلال والمسلم لا ينفك يدعو ربه بقوله (اللهم اغننا بحلالك عن حرامك) ومن يُمن المرأة يسر صداقها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصوص المهر (التمس ولو خاتما من حديد)

        كل هذه التوجيهات النبوية المحمدية المبينة والمفصلة لما جاء في آيات الكتاب العزيز فيما يخص الزواج وتكوين الأسرة انما الغرض والمبتغى من ورائه ان تكون هذه الخلية الاساسية حصنا يجد فيه الزوجان في البداية كل اسباب الانسجام وعدم الاختلاف والتنازع وعند حدوث ذلك لا قدر الله فإن على الأسرتين المتصاهرتين الاصلاح بينهما قال تعالى (فابعثوا حكما من اهله وحكما من أهلها ان يريدا اصلاحا ويوفق الله بينهما)

        وتبدأ بالزواج مرحلة أخرى لا تقل أهمية ألا وهي مرحلة انجاب البنين والبنات وهي مسؤولية لا تقتصر على الاطعام والاكساء والعلاج وغير ذلك مما نرى الاسر والعائلات تجهد أنفسها في سبيل تحقيقه لبناتها وأبنائها وكل ذلك واجب ولا ينبغي ان يصل الى درجة المبالغة في الاستجابة لرغبات ونزوات الشباب غير المشروعة وهنا لا بد من التنبيه الى ان الاسلام يدعو الآباء والأمهات على عدم التفريق والمفاضلة بين الذكور والاناث فتلك من عادات الجاهلية التي تعتبر ان انجاب الأم للبنات عارا وصل بهم الى حد الوأد (واذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرزق البنين والبنات ولا تبقى من بعده على قيد الحياة الا البنات (أنا أب البنات واحب البنات) وبشر بالجنة من يرزق بنتين فيحسن تربيتهن ونهى عليه الصلاة والسلام على تمييز أحد من أبنائه بالعطية اللهم الا ان يكون لسبب ضعف او مرض وبتراض بين كل الإخوة وقال عليه الصلاة والسلام لمن أراد أن يشهده على ما كان سيخص به أحد أبنائه قال له (لا أحب أن أشهد على جور)

        ونهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن التصدق بكل المال وأذن بالثلث وقال (الثلث والثلث كثير لأن تترك ورثتك أغنياء أفضل من ان تتركهم فقراء يسألون الناس).

        كما حددت آيات الكتاب العزيز نصيب كل طرف في الإرث بإنصاف واعتبار المسؤوليات كواجب الزوج في النفقة على زوجته وحق الزوجة في النفقة على زوجها وقال تعالى (يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين)

        و للأبناء والبنات على آبائهم وامهاتهم حقوقا حيث ورد في الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام (من ولد له ولم يحسن اسمه وأدبه وبلغ ولم يزوجه فأصاب إثما فإثمه على أبيه) البيهقي

        والولد في الاسلام يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ومن أوجب الواجبات على الآباء والامهات أن ينشؤوهم على الخلق الكريم ويعلموهم الضروري من علوم الدين مثلما ورث أولئك الآباء والأمهات الدين عن آبائهم وأمهاتهم قال الله تعالى (قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) على الآباء والامهات أن ينشؤوا أطفالهم منذ نعومة أظفارهم النشاة الاسلامية الصحيحة وقديما قيل (وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده ابوه)

        ان ابناؤنا صحائف بيضاء نكتب فيها ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا

        ان الآباء والامهات هم القدوة والاسوة والمثال فاذا كان الاباء والامهات على الخلق الكريم: صدقا وامانة وعفافا وفضلا كان الابناء كذلك واذا كان الاباء والامهات عكس ذلك فسيكون الابناء عكس ذلك شجارا وخلافا وتقصيرا في أداء ما فرض الله على عباده واتيانا لما حرم الله من الموبقات فسيكون الابناء كذلك فكيف نلوم بعد ذلك الابناء الذين يصدق فيهم حينئذ قول القائل

        (ألقاه في اليم مكتوفا وقال له     اياك اياك ان تبتل بالماء)

        لا نريد لأبنائنا وبناتنا أن يقولوا (هذا ما جناه ابي علي    وما جنيت على أحد) الاباء والامهات بالخصوص اذ الأم هي المدرسة الاولى (الام مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق) يتحملون مسؤولية تنشئة الابناء والبنات النشاة السليمة الصحيحة بتعليمهم (وأفضل تعليم التعليم بالقدوة والمثال) آداء الواجبات بداية بالواجبات الدينية (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) وانتهاء بالواجبات الاخلاقية والاجتماعية نحو الكبار بداية بالوالدين وذوي الارحام والاجوار وسائر افراد المجتمع

        والاولاد من بنين وبنات هم عناوين أسرهم فاذا كان الاولاد صالحين على خلق كريم فكذلك هي أسرهم واذا كانوا عكس ذلك فلا شك في ان خللا في العائلة موجود لا بد من اصلاحه لأن ضرره يتجاوز من وقع منه الخلل الى محيطه العائلي والاجتماعي

        انكم معاشر المسلمين في هذه الديار مدعوون الى ايلاء أبنائكم وبناتكم الاهتمام والعناية الكبيرتين، انهم في أمس الحاجة الى الإحاطة بهم فعليكم متابعتهم بالتوجيه والارشاد حتى لا ينزلقوا في متاهات الحرام والانحراف والانسلاخ من دينهم وقيمهم السمحة ذلك هي رسالتكم فاذا نجحتم فيها فقد غنمتم وغنم أبناؤكم وان فشلتم فيها لا قدر الله فيا خيبة المسعى نسأل الله لكم في هذه المهمة الصعبة السداد والرشاد انه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير

         أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم انه هو الغفور الرحيم 



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.