تفسيــــــــــر آيات الانفاق في سبيل الله من سورة البقرة

تفسيــــــــــر آيات الانفاق في سبيل الله من سورة البقرة


بســم الله الرحمــان الرحــيم “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)”. سورة البقرة صدق الله العظيم إن هذه الآيات من سورة البقرة تعالج مشكلة اجتماعية متفشية في جميع المجتمعات بنسب مختلفة ومتقاربة، هذه المشكلة هي اختلاف المظهر والمخبر وعدم مطابقة السر للعلانية. وإن المتأمل للآيات بادئ ذي بدء يلمس أن المحور الذي تدور عليه هو التحذير من الوقوع في مثل هذه الآفة الخطيرة التي هي صورة من صور النفاق وبداية من بدايات المهلكة أفلا تراه سبحانه وتعالى يلح على جعل العمل خالصا لوجهه الكريم ويكرر كلمة في سبيل الله ويضيف إليها ضرب الأمثلة التشخيصية للعمل الذي جاء وفق المطلوب، وللعمل الذي كان ذا صبغة ازدواجية بواكيره ومقدماته تنمي إلى الخير وتتسم بسمته ولكن خواتيمه ونهاياته متناقضة مع ذلك تمام التناقض وهو في جميع ذلك يقدم النتائج الطبيعية لكل نوع من النوعين حتى يكون المؤمن على بصيرة من أمره ويختار لنفسه أوضح الطرق وأسلمها، فلنستمع إليه سبحانه وتعالى يقول: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).أجل إن فضله لواسع وإن رزقه لكثير، وإن علمه لمحيط بكل خفي وظاهر لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ومن لا تخفى عليه النملة السوداء في الليلة الحالكة السوداء لا تخفى عليه خلجات الضمائر ولا نبضات القلوب فكل سر محجب، هو امام علمه المحيط مهتوك الحجب، سافر الوجه يعلمه كما هو ويراه فإذا ما علم من عبيده حسن النية وسلامة القصد، ورأى أن إنفاقهم لأموالهم كان في سبيله وابتغاء مرضاته لم يخالطه قصد آخر من تلك المقاصد غير الشريفة، تجلى عليهم بالرضى والقبول وفتح لهم أبواب الخير على مصاريعها فقال لهم: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) بل وعدهم لا بإرجاع المثل فقط حتى يكون إنفاقهم كإقراض الكريم الأصيل إنما وعدهم بإرجاع الضعف والأضعاف الكثيرة إذ قال هنا: (والله يضاعف لمن يشاء) وقال في مقام آخر: (فيضاعفه له أضعافا كثيرة)، وبذلك يكون المنفق في سبيل الله متجرا ماهرا زيادة على مقصد الخير الذي هو الدافع الأول. وأي تاجر ذكي لا يسارع إلى عقد صفقة يأتي الدرهم فيها بسبعمائة درهم إذا لم تقع المضاعفة الواحدة ولا المضاعفات الكثيرة، أما إذا وقعت إحداهما وذلك كثير ومتوقف على شرط واحد هو من جانبنا نحن لا من جانب الله فإن ضبط الأرباح يحتاج إلى اختصاصي في الحسابيات ومسك الدفاتر (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ) أرباح طائلة ومغانم كثيرة لمن جزم وتيقن أن ربه قادر على كل شيء وكريم فوق كل كريم، وآمن بصدق قوله: ( إن الله لا يخلف الميعاد)(ولن يخلف الله وعده)، إلى غير ذلك من التأكيدات الكثيرة التي لا تترك مجالا للشك إلاّ في قلوب ران عليها الجحود وغشاها الشك والشرك، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.. ويتمادى سبحانه وتعالى في توضيح الغرض وتقريره فيقول: (الذين ينفقون أموالهم ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأن الله سبحانه وتعالى يخشى علينا أن تلاحقنا النوايا الخبيثة ولو بعد إتمام العمل الخيري فيريد أن يحذرنا من ذلك ويوصينا بأن لا نغترّ بإحراز الانتصار الأول إبّان نشوب المعركة بين نوازع الخير ونوازع الشر فنستسلم للدعة والاطمئنان. ونتصور أن فلول الجيش المهزوم لا تستطيع أن تلم شعثها وتنقض انقضاض الآيس فتبدل نتيجة المعركة الأولى وكثيرا ما وقع ذلك فعلا في معارك الجيوش وفي معركة النفس (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)إن كلمة يتبعون تدل على أن عملا ثانيا جاء عقب عمل أول وكان مخالفا له ومناقضا لروحه فقد يبطله وينسخه، وما المن إلا نوع من الفياش والانتفاخ يصاب به ضعيف النفس، وكلنا ضعفاء النفوس فيجد متعة في ترديد ذكر أياديه ويتغنى في كل ملأ بمناسبة أو بغير مناسبة كأنه يشعر بأن البشرية لم تستطع أن تؤديه حقه ولا أن تملأ الدنيا بشكر صنيعه. وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن تلك الخيرية لم تكن أصيلة طبيعية تنبع من أعماق الشعور ومن صادق العاطفة، بل كانت متكلفة مصنوعة استطاع صاحبها أن يخفي أثر الكلفة والصنعة فيها لزمن قصير، ثم أبت إلا أن يفتضح سرها وتظهر على حقيقتها. ومهمــــا تكــــن عند امرئ من خليقـــــــة وإن خالهـــــا تخفى على النـــاس تعلــــم ومثل هذا لا يحتاج إلى تأمل كبير ليحكم على أنه عمل في سبيل النفس وفي سبيل الشيطان وليس هو لله ولا في سبيل الله، ومثل المن الأذى والاستنقاص وكل ما ينعت بأنه تصرف منحرف إزاء من شاء ربك أن يسوق إليه الخير على يديك وكله في الواقع من عند الله. إنما الغفلة والجهل هما اللذان يخيّلان لأصحابهما أنهم على شأن كبير وأنهم يملكون الخير والشر وذلك الوهم والخطأ: ويأبى الله إلا أن يقدم نوع الجزاء الذي سيجازي به من لم يتبع ما أنفق منا ولا أذى فيقول: (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لهم أجرهم عند ربهم. وأي شيء أضمن وأفضل من الأجر الذي يتكفل بالوفاء به غنى قادر وكريم وليست العندية مقصورة على الجزاء في يوم الجزاء كما يتبادر إلى بعض الأذهان، فيزهد من يزهد ويستبطئ من يستبطئ. إنما العندية معناها الوجود والتكفل وأول ما يكون ذلك يكون في العاجل ثم في الأجل وكلاهما يقتضيه اللفظ ويحتمه المعنى، ولتأكيده نفي عن أهله الخوف والحزن ولا ينتفيان إلا حيث تتحقق السعادة والأمن، وبعد كل هذا يسوق المولى مقارنة ومفاضلة بين هذا العمل المبرور في ظاهره المبتور المشلول في حقيقته وبين السلبية النبيلة التي تتجلى في القول الطيب والإحساس النبيل والتجاوز والتسامح ويفضل هذه السلبية الطاهرة عن تلك الإيجابية الكذوبة فيقول: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) إنه لغنى عن صدقة المن والأذى وحليم بمن هفا وازدجر وندم وينتقل سياق الآيات بعد إعطاء الأحكام واضحة جلية إلى نوع آخر من أنواع التقرير والإقناع ويستفتحه بالنداء ثم يتبعه بضرب الأمثال المجسمة في عالم الحس حتى تزداد القلوب إيمانا ويقينا فيقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين). لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، هذه نتيجة حتمية لما كان قرر في الآيات السابقة إنما الجديد هو تشبيه هذا النوع من الصدقة بنوع آخر من الانفاق الذي يأتي مواجهة لغرض سخيف ضعيف يريد صاحبه أن يأتيه مباشرة بدون التواء (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) وما مثل هذا وذاك في عالم الحس إلا كمثل حجر أملس وضع عليه تراب فلما نزل المطر وابلا جرف ذلك التراب الذي لم تنتفع به الأرض التي كان فوقها ولا استقر وأنبت فوق تلك الصخرة والأمر كذلك بالنسبة لمن ينفق رياء، ولمن يبطل الصدقات بالمن والأذى ففي كل منهما الخسارة المحققة والافتضاح والغضب، والله لا يهدي القوم الكافرين ثم أتى سبحانه وتعالى بمثل الذين ينفقون في سبيل الله بثقة في جزائه واطمئنان لوعده وما مثل هذا إلا كمثل من يملك بستانا بأرض مرتفعة فيه نخل وعنب وفيه من كل الفواكه والثمار وجاءه المطر في الإبان فماذا تراه يصنع؟ وكيف يكون إنتاجه وإثماره سواء نزل به الوابل أو الطل؟ إنه سيكون جميل المنظر لذيذ الفاكهة، وافي المنفعة، ذلك بعينه مثل من أنفق في سبيل الله وافقا مطمئنا فلنستمع إلى العزيز القدير يقول: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.