تفسير الآيات الاولى من سورة المؤمنون

تفسير الآيات الاولى من سورة المؤمنون


يقول الله تبارك و تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.بسم الله الرحمان الرحيم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) صدق الله العظيم. سورة المؤمنين من السور المكية و قد افتتحت بعشر آيات سنتولى شرحها في هذا العدد و الذي يليه إن شاء الله ، و هي آيات جامعة لأسباب الفلاح مشتملة على أهم منابع السلوك الإسلامي و لقد روى الإمام أحمد في صحيحه : أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما نزلت عليه هذه الآيات استقبل القبلة و رفع يديه و قال ( الهم زدنا و لا تنقصنا و أكرمنا و لا تهنا و أعطنا و لا تحرمنا و آثرنا و لا تؤثر علينا و أرض عنا و أرضنا ) ، ثم قال لأصحابه من حوله و قد لبثوا ينتظرون تفرغه من التنزيل ( لقد انزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ) و قد روى هذا الحديث مع الأمام أحمد الترمذي و النسائي في باب الصلاة . و عن عائشة رضي الله عنها لما سئلت كيف كان خلق الرسول صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن ثم قرأت قد أفلح المؤمنون إلى آخر الآيات ، قالت هكذا كان خلقه عليه السلام. و عن أبى الدنيا أن الله سبحانه و تعالى لما خلق الجنة قال لها انطقي . فقالت : قد أفلح المؤمنون ، فقال الله ( و عزتي و جلالي لا يجاورني فيك بخيل ) . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ( و عزتي و جلالي لا يجاورني فيك بخيل ) . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( و من يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون) و ابتدأت السورة بتأكيد الفلاح و تحقيقه حسبما تؤدي ذلك لفظة قد الداخلة على الماضي ، و الفلاح هو الفوز و النجاح الذي يظفر به المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف المتتابعة في الآيات و التي ليس من السهل أن يدركها كل إنسان لأنها تقتضي مجاهدة و مغالبة للنفس و لا يظفر بذلك إلا قوي في إيمانه متشبع بدينه مدرك لأسراره البعيدة و القريبة . و أول هذه الصفات العشر : أداء الصلاة بخشوع لان الصلاة شيء عظيم و جميل و هي صلة و قربى يمسك بطرفها كل من أداها مستوفية لأركانها و شروطها غير مشتملة على مبطل من مبطلاتها ومناقض لحركاتها و سكناتها . بيد أنها تسمو و ترتفع و تتفاوت أصحابها القائمين بها و المحافظين عليها . و لقد كان الصحابة قبل نزول هذه أللآية يرفعون أبصارهم إلى السماء حال أدائهم للصلاة ، و لا يخفى أن الخشوع الحق فيه تنكيس للطرف و مطأطأة للرأس لذلك كان صلى الله عليه و سلم لا يجاوز بصره مصلاه كما روى ذلك ابن سيرين بل ذهب العلماء إلى أبعد من ذلك لتحقيق هذا القصر البصري على موضع السجود حتى أنهم طلبوا ممن اعتاد النظر يمينا و شمالا و فوق أن يغمض عينيه ليفرغ قلبه وفكره فيما هو بصدده من عبادة الله و مناجاته ، و غنى عن البيان أن الخشوع الكامل أو القريب من الكامل إنما يدركه و يحرز عليه من فرغ قلبه للعبادة التي يمارسها آنذاك و اشتغل بها عن كل ما سواها و آثرها على غيرها و ألقى بهمومه و أفكاره و مطامحه إلى الأرض مع تكبيرة الإحرام و رفع اليدين وحينئذ يمكن أن تكون الصلاة قرة عين له و همزة وصل بينه و بين خالقه و سلما يصعد به إلى غاياته البعيدة و القريبة الدينية و الدنيوية و مثلنا الأعلى صلى الله عليه و سلم يقول ( و جعلت قرة عيني في الصلاة ) *ثم تتبع هذه الآية العظيمة بآية ثانية لا تقل عنها أهمية في تهذيب النفوس و صقلها و السمو بها عن دنايا الأمور و خبائث الصفات و هي ( و الذين هم عن اللغو معرضون ) و كلمة اللغو في الآية لا تقتصر عن الهجر و البذاءة و السب و اللعن و ما يغضب الرب من كفر باللسان و استخفاف بالمقدسات بل يتجاوز كل هذه الأصول حتى يدخل في مفهومه كل ما لا فائدة فيه من الأقوال الفارغة و ذلك ما تؤكده الآية الأخرى ( و إذا مروا باللغو مروا كراما ) . و لقد وضح الرسول صلى الله عليه و سلم هذا المعنى في مجال نبوي تربوي عظيم حين قال لأصحابه ( رب كلمة يقولها العبد لا يلقى لها بالا تهوى به في قعر جهنم سبعين خريفا ) . فسأله أحد الصحابة رضوان الله عليهم : و هل نؤاخذ يا رسول الله بما لا نلقى له بالا فقال للسائل : و هل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم . *ثم تتبع الآيتان بآية ثالثة و هي قوله جل من قائل ( و الذين هم للزكاة فاعلون ) و الأظهر و الأشهر في هذه الآية أن تحمل الزكاة على جميع ما يتحمله لفظها من الزكاة المالية غير الواجبة التي تحتمها ظروف الحاجة الإسلامية في بعض المقامات الاستثنائية إلى زكاة النفس ( قد أفلح من زكاها ) إلى تزكية الجوارح بتطهيرها من دنس الفجور و الفسوق فكل هذه الأشياء و أكثر منها و أعم و أشمل بعض ما تشير إليه آية ( و الذين هم للزكاة فاعلون) . *و بعدها تأتي الفقرة الرابعة و هي واحدة من ثلاث آيات متكاملة هي ( و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) . إن حفظ الفروج لمن أهم ركائز الاجتماع البشري فهو الكرامة و هو العفة و الطهر و هو البعد عن كل أسباب التمزق و الشحناء و لذلك يقول ربنا ( و الذين هم لفروجهم حافظون ) و كلمة حافظون هنا مطلقة عامة لكل ما يقتضيه الحفظ من غير ما وقع الاستثناء من أجله و هو ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) . فكل لون من ألوان إهدار النطف بأية طريقة و بأي أسلوب هو مجانبة و مجانفة لآية الحفظ هذه و منها أخذ الشافعي رضي الله عنه تحريم ما يسمى ( جلد عميرة ) أي الاستمناء باليد أما اللواط و إتيان الحيوانات فمن باب أولى و أحرى و كل ذلك داخل في ابتغاء ما وراء ذلك و مفض حتما إلى التمرغ في الاعتداء الشنيع ( فأولئك هم العادون ) و لا ينجو صاحبه من عقاب عاجل في هذه الحياة يجعل الدار بلقعا و البدن مهلهلا و القيمة ضائعة ( الزنا يترك الديار بلا قع ) . و إن تدحرج المجتمعات البشرية عبر العصور إذا ما تأملنا أسبابه الرئيسية فسوف نجد على رأس قائمة هاتيك الأسباب : مسألة الاستهتار بالنطف و الفروج إذ بذلك تهدر الطاقات الروحية و المادية والاجتماعية و تصاب الأمم التي يتفشى فيها هذا الداء الوبيل بالتمزق و الانحلال و ينقطع التعاطف والتراحم بين المجتمع في أجزائه المستقلة الملتئمة و بين الأسر في أبوتها المدخولة المشكوكة و بنوتها التي لا يعلم سلامتها الكاملة إلا الله و تبعا لذلك تصاب الجذوع فإذا ما أردنا أن نبحث عن أسباب انحلال الأسرة و ضياع ناموسها و حرمتها و وحدتها فان أول سبب سيناديننا هو هذا السبب فهو الجرثومة الأولى التي ينشأ عنها حب الاستقلال الفردي أو ما يسمى زيفا بالحرية الشخصية و تمزق جلباب الحياء و حب الذات و حب الاستماع و ما إلى ذلك من عاهات لا تزول إلا بزوال سببها الأصلي و هو العهر والفسوق فالعفاف إذا بهذا الاعتبار وهو حجر الزاوية و شرط الأساس يجب أن تتوجه إليه الهمم و تتضافر عليه الجهود حتى تعاد إلى المجتمع سلامته .و لقد روى في بعض الأحاديث أن أول اتباع المسيح الدجال هم اليهود و أبناء السفاح ذلك أن هذين الصنفين من البشر تندثر فيهم القيم و تنفى عنهم الأصالة ويصبحون كريشة في مهب الرياح . و انه لمن الغريب جدا أن يتجاهل الناس هذه الأعراض الملموسة و يتغافل الكثير منهم عن ويلات الإباحة بل يرى أهل الشذوذ مهما سمت أفكارهم و ثقافاتهم أن الإسلام مفرط في إقامة الحدود بالرجم أو الجلد أو الحبس و التعزير على من ألجأته غريزته البشرية ليفعل شيئا هو ضرورة لحياة الإنسان كالماء و الطعام . و لو تأمل الناس بشيء من التجرد و الواقعية احكام الإسلام في هذا الميدان بالذات لعرفوا أنه النظام الوحيد الذي يسعى لتكريم بني آدم و ابعاده عن الحيوانية و إحاطته بكل أسباب المناعة الجسمية والعقلية و الروحية و إذا ما انغمس الفرد أو المجتمع في هذه البؤر الموبوءة و حمأة المستنقعات الوبيئة فإنهما سينقلان الجراثيم منهم إلى أصحاء بجانبهم لا يلبثون أن يصبحوا كمن سبقهم فينزل الويل و الثبور على البشرية قاطبة و تصبح حيوانات متحضرة تمتاز عنها بإتقان الشر و لبس الثياب و اتخاذ وسائل الاستماع. فلا نجاة للإنسانية قاطبة و للأمة الإسلامية بصفة خاصة من هذا الهول إلا بصيانة الفروج و حفظها و الابتعاد عن الاعتداء بكل أنواعه و كل أسبابه التي أولها التبرج و الاختلاط و آخرها الفساد و الإباحية فمتى يصيخ دعاة الشر و حماتهم إلى هتافات السماء و نداءات القرآن الكريم و ما يزال قوله جديدا نابضا بالحياة ( و لا تقربوا الزنا انه كان فاحشة و مقتا و ساء سبيلا ) انه الفاحشة الكبرى و أي فاحشة في الأرض اكبر منه و أعظم يعرفه الكبار بعد أن يجربوا الحياة و تصدهم النكبات والويلات و يجهله الصغار في طفراتهم الجنوبية و لكنهم في حاجة إلى تلقين ملقن و زجر محكم وتأديب مؤدب ، و انه أيضا للمقت الأكبر من طرف أولئك الذين انتهكت حرماتهم و وقع التعدي على أعراضهم و من طرف تلك النطف التي قد تصبح أبناء ضائعة في عوالم مختلفة ، و أديان متناقضة و أجناس متباينة و من طرف الخالق الأعظم سبحانه و تعالى الذي شرع لنا من الدين ما وصى به رسله أجمعين وحدد لنا حدودا لا يقبل تجاوزها و لا يبيح انتهاكها ، و إنها للسبيل السيئ بل الأسوأ الذي لا يفضى إلا إلى المهالك و الخيبات في هذه الدنيا الفانية و في تلك أللآخرة الباقية ، في هذه الدنيا بما أسلفنا الإيماء إليه من التمزق و الانحلال و العداء و الكراهية أما في الآخرة فحدث عن البحر و لا حرج نسأل لله سبحانه و تعالى و هو السميع المجيب أن يحفظنا و أبناءنا و بناتنا و جميع المسامين من هذه الآفات والمهلكات انه هو العزيز الحكيم



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.