الإيمان والعمل الصالح يكفران عن السيئات ويجزى صاحبهما احسن الجزاء

الإيمان والعمل الصالح يكفران عن السيئات ويجزى صاحبهما احسن الجزاء


بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على اشرف المرسلين الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(1) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(2) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ(3) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(4) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين(5) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(6) وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(7) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (8) ابتدأت سورة العنكبوت هذه بألف لام كما ابتدأت بذلك سور أخرى . و إن هذه الأحرف التي ابتدأت بها بعض السور من الاشياء التي استأثر بعلمها المولى سبحانه و تعالى ذلك أنه لم يرد في شانها نص صريح يحدد مفهومها و كل ما هنالك إنما هو أراء لبعض الصحابة و لكبار العلماء فمن قائل إنها حروف هجاء تشير إلى القراءة و التعليم و من قائل إنها أسماء لتلك السور التي تفتتح بها .و من قائل إنها أحرف من اسم الرحمان أو اسم الجلالة إلى غير ذلك من الروايات التي لا فائدة في استقصائها و ترجيح بعضها على بعض لان ذلك لا يؤثر على المعاني الأصلية للسورة و لا للقرآن عموما ثم تبدأ السورة بعد ذلك باستفهام إنكاري أو تقريري و كلاهما لا يقتضي جوابا لأنه بمعنى كيف (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) ظن خاطئ لا يمت إلى الحقيقة بصلة إذ كيف يعقل أن يكون إعلان الإيمان مبعدا لصاحبه عن الابتلاء في حين أن الرسول صلى الله عليه و سلم يقول ( أشدكم بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فان كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ) ، ومثل هذه الآية ( أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين ) و مثلهما أيضا قوله جل من قائل ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) و من مجموع هذه الآيات و التي معها يمكن أن نخرج بالحقيقة التالية: إن البلاء و الابتلاء محك يرجع الأشياء إلى أصولها و يميز الخبيث من الطيب فهو كالنار تزيل عن الذهب الإبريز ما غشاه من صدا حجب حقيقته و نوعه. و لولا ذلك لاختلط الغث بالسمين و الحابل بالنابل و لضاع الاخيار في غمرة الأشرار و لا امكن لكثير من البارعين في التصنع و التمثيل أن يغالطوا الناس و يغالطوا أنفسهم ، إلا أن الله الذي يمقت المغالطة و النفاق يأبى إلا أن يبعث بشدائده و امتحاناته فيثبت ، و ينخذل من ينخذل ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) و تلك هي الحكمة الالهية الرائعة التي تعتمد الوضوح و تجعله أساسا في كل شيء ، و تحملنا على توخي سبيله و إتباع جادته المثلى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) نعم لقد مرت جميع الأمم بامتحانات شاقة و فتن قاسية و لقد فتن سليمان عليه السلام بفتنتي الخير و الشر كما فتن غيره من الأنبياء و الرسل و المصلحين ( و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون) . ( إنما أموالكم و أولادكم فتنة ) و من سوء حظ الانسان أن يحسب أن فتنته و امتحانه إنما هما في تلك الشدائد التي يكابدها و يتغلب عليها في النهاية بإيمانه و عزيمته وصبره فيتغاضى بل و ينسى تلك الامتحانات القاسية الدقيقة التي تنتظره بعد فوزه في امتحانه الأول والتي لا تواجهه مواجهة و لا تأخذه من نواحي القوة و الجلد بل تغتنم فرص غفلته و سهوه ( و من مامنة يؤتى الحذر ) كما يقول المثل العربي الحكيم. فإذا بذلك العملاق القوي الذي يهابه الابطال و يفر منه الموت اضعف من الحمل الوديع أمام غرائزه وشهواته : و تزين له نفسه الغرور كل فعل يفعله و تمده بالتعلات و المعاذير . و تلتمس له المخارج والحجج حتى لا يعود إليه رشده و صلابته و جهاده و ما أعظمه من رب و ما أكرمه من أله إذ يحذرنا من هذه المغبة و يفتح أعيننا عما أغمضتها عنه الغفلة و الشهوة فيقول ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) و لنستمع إلى الرسول الكريم يحدث أحد أصفيائه من الصحابة الأبرار و هو خباب بن الارت الذي روى عنه البخاري رضي الله عنه أنه ( قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو متوسد بردا له في ظل الكعبة فقلنا الا تستنصر لنا الا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين و يمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه و عظمه فما يصرفه ذلك عن دينه و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ) صدقت يا رسول الله لقد تم كل ذلك و أكثر من ذلك و لم تغلب أمتك أبدا من قلة كما قلت في مقام آخر و إنما فقط تغلب إذا أصبحت غثاء كغثاء السيل يوم أن يطغيها النعيم فتنزلق في حضيض الشهوات الرخيصة و لقد رأينا كل ذلك و مازلنا نراه إلى اليوم فحنانينك يا رب انك مقلب القلوب . و ما قلوبنا الا بين أصابعك تقلبها كما تشاء فوجهها وجهة الخير و اشحنها بالإيمان و الإخاء والصدق حتى يعود لأمة حبيبك محمد صلى الله عليه و سلم عزها السابق و فخرها التليد : إننا يا رب ما نزال على بقية من إيمان و توحيد فلم نصل في إسفافنا إلى أولئك الذين قلت فيهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) لقد ظن أولئك الملحدون و الكفرة أنهم يستطيعون أن يفوتوا قضاءك الصارم و غضبك الماحق . فساقهم ظنهم الخاطئ إلى مجاهرتك بالفسوق و العصيان و إلى التطاول على أحكامك المبرأة من كل عيب أو نقص انه و أيم الله لاسوأ حكم حكموه و أفدح خطأ ارتكبوه (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين ) و همان يساوران كثيرا من النفوس الخاطئة أراد الله تنفيذهما أولهما يأتي عن الرجاء في الجزاء و تأخير يوم الحساب و احتجابه عن الانظار و ثانيهما يأتي من التأكيد على أداء الواجبات بما فيها الجهاد و على الكف عن المناكر بما فيها الشرك : إن ذلك البطء و الرجاء و الحجب قد يجعل ضعاف العقول و الإيمان يتطاولون ، و قد ألفوا أن يؤمنوا بالمحسوس فقط كمن لا عقل له . قلت يتطاولون على إنكار اليوم الأخر و إنكار الجزاء بل و إنكار الخالق تماما و أيضا إن التأكيد على القيام بالواجب و على الكف عن ضده قد يخيل إلى أولئك الضعاف و اضرابهم إن لله من وراء ذلك منفعة أو دفع مضرة تعالى الله عن ذلك عَلوا كبيرا ( قل يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد ) إن أي تكليف يناط بعهدة الإنسان إنما هو لجلب منفعة الإنسان ذاته بعيدة كانت أو قريبة حسية أو معنوية فردية أو جماعية ( إن تكفروا انتم و من في الأرض جميعا فان الله لغني حميد ) و بعد كل هذا يتضح لكل ذي مسكة من إدراك أن من جاهد في سبيل الله جهادا اكبر: جهاد أعداء أو جهاد غرائز إنما يجاهد لجلب العزة و النعمة لنفسه و لامته أما الله فهو غني عن العالمين ، و يريد المولى بعد هذا أن يطمئن نفوس المؤمنين بما تكفل به لهم من خير عاجل أو آجل و من تكفير ذنوب و إنجاح مقاصد و تبليغ غايات اذا هم التزموا طريق الخير و قاموا بالأعمال الصالحة لدينهم و دنياهم فيقول (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ثم يتبدل سياق الكلام إلى نوع آخر من التوصية بالوالدين و التحريض على الإحسان إليهما و القرآن لا يترك فرصة تمر دون أن يدعو معتنقيه إلى الإحسان ( إن الله يحب المحسنين) (وأحسن كما أحسن الله إليك و لا تبغ الفساد في الأرض) ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) و أن أولى الناس بالإحسان هم المحتاجون إليه من ضعاف خلق الله أولئك الذين طوقوا جيدك بمنهم و برهم وإحسانهم و على رأس هؤلاء جميعا الأبوان، الأبوان اللذان قرن الله رضاهما برضاه و هذه الآية لا تعالج مسألة الطاعة مجردة و إنما تعالجها متعارضة مع مبدأ العقيدة ذلك أنها نزلت في حق سيدنا سعد بن أبي وقاص و أمه ، فقد روى أصحاب الصحاح عن مصعب بن سعد رضي الله عنهما أن سعدا لما آمن كرهت ذلك منه أمه حمنة و كان بارا بها فأقسمت ان لا تشرب شرابا و لا تأكل طعاما و أن لا تستظل بسقف حتى يكفر سعد بمحمد صلى الله عليه و سلم فقال لها سعد و الله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه السلام فإن شئت فكلي و إن شئت فلا تاكلي، و خشي سعد رضي الله عنه أن يصيبه شيء من غضبها فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزل قول الله تعالى ( و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. والذين آمنوا و عملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) هذه بشرى تزف لسعد و لغيره من الذين تحلوا بما تحلى به هذا الصحابي الجليل الذي ضحى بعواطفه و رضي لأمه الموت و في إمكانه إنقاذها و لو بتقية أو مجاملة و لكنه آثر أن لا يؤارب في دينه و أن لا يجعل لعواطفه سبيلا على ما أعتنقه من دين قويم فحري به أن يدخل هو و من كان على شاكلته في زمرة الصالحين الذين بوأهم ربهم أسمى مقامات في الدنيا و سوف ينزلهم في جنان الخلود حيث المقام المحمود و الحوض المورود و السعادة التي لا شقاوة بعدها.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.