خطبة جمعة في ذكرى مولد النبوي الشريف (1)ألقيت بالجامع الكبير بمقرين العليا للشيخ محمد صلاح الدين المستاوي

خطبة جمعة في ذكرى مولد النبوي الشريف (1)ألقيت بالجامع الكبير بمقرين العليا للشيخ محمد صلاح الدين المستاوي


الحمد لله الذي أنار ببعثة سيدنا محمد الظلمات وأظهر المعجزات بالآيات البينات. وأشهد أن لا إله إلا الله ربٌّ كريم شهادة تبقى لنا ذخرا عندما يقف الناس بين يدي ربّ العالمين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين. أما بعد أيها المسلمون، أيام قليلة فقط تفصلنا عن ذكرى ميلاد سيد الأنام محمد بن عبد الله فبحلول شهر ربيع الأول من كلّ عام يتوجه المسلمون بقلوبهم وعقولهم وأبصارهم الى حياة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام التي كانت جهدا وجهادا وعملا دائبا لإعلاء كلمة الله. ولا نجد في هذه الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين أجمل من ترديد خصاله ونشر خلاله فقد كان صلى الله عليه وسلم جمالا وكمالا وكان نورا يمشي على الأرض به أقام الله على الناس الحجة فهو حجته البالغة لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم صفحات رائعة من الجهاد والعمل الصالح الدائب فكان في خلقه عظيما وفي عمله كبيرا وفي سيرته وسمته جميلا وصدق فيه قول ربنا جل من قائل وإنك لعلى خلق عظيم ولقد كانت سيرته العطرة محل اهتمام الدارسين والمؤرخين فلقد لمحوا جوانب من العظمة لم تتوفر في مخلوق سبقه أو لحقه وما ذلك إلا لأن ربّه قد تولاه ورعاه وحفظه وقوّاه لما بعثه في الناس نذيرا فأدى الأمانة وبلغ الرسالة جزاه الله عن أمته خير ما يُجازى به نبي عن أمته. إن سيرته عليه الصلاة والسلام تحمل في طياتها العبر والدروس لمن أراد الاعتبار ولقد كان صلى الله عليه وسلم عظيما في حلمه وعفوه، في شجاعته ونجدته، في حيائه وإغضائه، في حسن عشرته وبسط خلقه، في شفقته ورأفته ورحمته في وفائه وحسن عهده وصلة رحمه في تواضعه رغم علوه ورفعته في عدله وامانته وصدق لهجته في وقاره وهمته في زهده في الدنيا وفي خوفه لربه وطاعته له. ولو عدنا بالتفصيل والتبيين والتوضيح لكلّ هذه الخلال والصفات لاستغرق منا ذلك خُطبا متوالية ولكن ما لا يدرك كله لا يُترك جُلّه ولا بدّ في هذا المجال من ذكر بعض صفاته وتصرفاته لتبقى لنا معلما نهتدي به في الظلمات فهو رسولنا الكريم ونبيّنا العظيم ونحن مأمورون شرعيّا بالاهتداء به بل إنه لا يمكن أن يصلح لنا حال ولا مآل إلا إذا اتخذنا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ومثالا نضعه في وجهتنا. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وهي التي عاشرت الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفت منه ما لم يعرفه بقية الناس تقول صادقة غير مجاملة (ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله) نعم لقد كان كذلك كان صلى الله عليه وسلم يغضب لغضب الله ويرضى لرضاه ويتحمل كل ما سوى ذلك من الأذى والقهر فلقد سلطت عليه قريش والقبائل العربية كلّ صنوف الأذى والإهانة وأشاروا لأبنائهم وعبيدهم بالإساءة وتنكيد عيشه فما نقم ولا سخط وما غضب إلا عندما وقع التعدّي على حرمات الله ومقدساته عند ذلك ثار ثورة لا تعرف الهدوء وفي ما سوى ذلك تحمَّل صلى الله عليه وسلم بصبر لا نظير له. ولما كُسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام وشجّ وجهه تمنى أصحابه أن يدعو على أعدائه دعوة تزيلهم من على وجه الأرض فيُصبحوا أثرا بعد عين ولكنه صلى الله عليه وسلم أجابهم بقوله (إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وعندما دخل مكة فاتحا منتصرا مؤيدا من ربّه ومؤزرا أقبلت وفود قريش طالبة العفو والصفح عما اقترفت في حقه وفي حقّ أصحابه رضي الله عنهم فقال لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء ) وهكذا يتجلى لكل ذي بصيرة ان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ليس من نوع قوّاد الجيوش و القياصرة الذين إذا انتصروا وتغلبوا على أعدائهم فتكوا بهم وشردوهم وذبحوهم واستحيوا نساءهم واستباحوا حرماتهم بل إنه صلى الله عليه وسلم عفا عمن ظلمه ووصل من قطعه وأعطى من منعه وبذلك كان صلى الله عليه وسلم مُطبقا وممتثلا لأمر ربّه سبحانه وتعالى حين قال له (خذ العفو وامر بالعرف)(واصبر على ما أصابك) (واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) كلّ هذه الآيات كانت نصب عيني الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وهو يتحمل الأذى في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وبذلك نبض قلبه ونطق لسانه عندما ذهب الى الطائف يدعوهم الى الإسلام فردوه وأهانوه. قال في قيلولة يوم قائظ متوجها الى ربه الذي يراه ويرعاه (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس الى من تكلني الى بعيد يتجهمني أم الى قريب ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي لكن عافيتك أوسع لي) وعن جوده وكرمه يقول جابر بن عبد الله: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال: لا ويقول عنه ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وعن أنس أن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فأعطاه صلى الله عليه وسلم فرجع الى قومه وقال : (أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة) وهكذا صلى الله عليه وسلم كانت الدنيا في يده يستغلها لتركيز الايمان في المؤلفة قلوبهم ويعين بها المحتاجين ولا يستغلها للبذخ والتفاخر مثلما يفعل القياصرة والملوك الذين كلما ملكوا شيئا استغلوه لصالحهم وصدقت السيدة خديجة حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تحمل الكلّ وتكسب المعدوم) يفعل كلّ ذلك وقد يبيت طاويا جائعا هو وعائلته وتشكو له ابنته سيدة النساء فاطمة الزهراء حالها وضعف ذات يدها فيقول لها: لا أعطيك وأهل الصفة أحوج منك إن حياة رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام تقف دروسا ناطقة وعبرا جليلة لأمته كي تسير على دربه وتنهج نهجه القويم إذا أرادت صلاحا وفلاحا وإذا ابتغت عزّة ونصرا. ألم يقل ربّنا جل من قائل على لسان نبيه (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله)؟ إن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام جعله ربنا النبي الخاتم وجعله حجة ومثلا يقتدى به في كل حياته. فقال جلّ من قائل (ولكم في رسولكم اسوة حسنة) لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم كبقية الناس بل كان نموذجا فريدا صدق فيه قول الإمام علي كرّم الله وجهه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس كفّا وأجرأهم قلبا وأصدقهم حديثا وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبّه) تقول عنه السيدة عائشة رضي الله عنها منوهة بمعاملته الحسنة وأخلاقه الدمثة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس بسّاما ضحّاكا) وكيف لا يكون كذلك وهو القائل (الدين المعاملة) والقائل (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) خدمه أنس بن مالك رضي الله عنه سنوات طوال فقال (لم يقل لي يوما لشيء فعلته لما فعلته ولشيء لم أفعله لم لم تفعله) كان صلى الله عليه وسلم نبيا لا كالأنبياء، كان بشرا سويا يمشي في الأسواق ويأكل الطعام ويخيط لباسه ويصلح حذاءه ويركب بغلته وكان صلى الله عليه وسلم بين أصحابه كأحدهم لا أبهة ولا تعال ولا غرور قال ذات يوم مهدئا من روع من اعتذر له عن هفوة ارتكبها (إن انا إلا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) ما أجمل التواضع الذي يورث الرفعة والعلوّ ويورث العزّة والمحبة بين الناس وكان صلى الله عليه وسلم لا يدعو الناس الى شيء ولا يأتيه بل يسبقهم عليه ولا ينهاهم عن شيء ويأتيه. وكان يبدأ بنفسه في كل شيء فيضرب لهم المثل. يقود جيوشهم في المعارك ويصمد صمود الباسلين فكان أشجع الناس وأكثرهم إقداما على المخاطر يقول علي ابن طالب: (كنا إذا حمي الوطيس اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب منه الى العدو) وهكذا وفي أحلك الظروف وأشدها في أتون المعركة والعدو ملتف به وبقلة من أصحابه كان يُردّد غير خائف ولا هيّاب (أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب ) صلى الله عليك يا رسول الله. وكان في زهده للدنيا وإعراضه عنها وقد أتته وهي راغمة قمة لم تعرف البشرية لها نظيرا خيّره ربه بين أن يكون رسولا ملكا ورسولا فقيرا فاختار ان يكون فقيرا وقال (اللهم احييني مسكينا فقيرا واحشرني يوم القيامة في زمرة المساكين) كم بات صلى الله عليه وسلم من ليلة طاويا واضعا الحجر بين بطنه وحزامه مؤثرا على نفسه وهو في أشدّ الخصاصة وكان مع ذلك أعبدهم وأخشاهم لربّه وقد غفر له ربّه ما تقدّم وتأخّر من ذنبه ورغم ذلك فإنه يقوم الليل الى أن تتفطر قدماه ويسجد الى أن يظن الناظر له أن قد أصابه مكروه يجد في مناجاة ربّه ودعائه حلاوة لا يجدها سواه وكيف لا وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم (حبب الي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرّة عيني في الصلاة) لذلك لم يبرح عليه السلام باب مولاه وسأله وأطال السؤال . وكان كلما حان وقت الصلاة قال مخاطبا بلال (أرحنا بها يا بلال) فلقد كان صلى الله عليه وسلم يجد الراحة فيها والمشقة في ما سواها من حديث وجدال وكيف لا يجد فيها الحلاوة والطلاوة وهي في معناها العميق الدعاء لربّ العالمين والطلب منه والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى؟ هذه عباد الله المسلمين في ايجاز بعض الجوانب النيرة في شخصية سيد الأنام عليه الصلاة والسلام أوردناها للذكرى والاعتبار وسنواصل في الأسبوع المقبل ان شاء الله تفصيلها وتبيين ما ينبغي أن يذكره المسلم ويحيي به مولد سيد الأنام عليه الصلاة والسلام هذا وخير ما يختم به الكلام كلام مولانا العزيز العلام أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) صدق الله العظيم وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. مقرين في 5 مارس 1976



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.