جوانب من هدي رسول الله في التحابب والتراحم

جوانب من هدي رسول الله في التحابب والتراحم


لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيما في كل جانب من جوانب شخصيته ولكنه كان أعظم في خلقه وسيرته ومعاملته للناس لقد كان انسانا سويا كانما خلق كما يشاء أدبه ربه فأحسن تأديبه وجعله سبحانه وتعالى يلتزم الصراط المستقيم في كل ما يأتيه من تصرفات حلا وترحالا ورضا وغضبا ورخاء وشدة وما أصعب ان يداوم الانسان على حال واحدة من الخلق الكريم لا يبدل ولا يغير مهما تغيرت أحواله وظروفه ولكن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام استطاع دائما ان يكون على حال واحدة يكون بها المثل الأعلى الذي يقتدى به وكيف لا يكون كذلك وهو الذي جعله الله حجة على عباده واسوة له (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) ومما يجعل هذه الحجة قائمة من الله على عباده انه عليه الصلاة والسلام لم يكن ملكا متنزلا من السماء تستحيل مجاراته على العكس من ذلك انه من المخاطبين المدعوين، من جنسهم وطينتهم (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) لقد نشأ فيهم وبينهم كاحدهم يعرفون صدقه وأمانته وعفافه وكريم خصاله لا يلمزه أي واحد منهم بدنيئة قبل البعثة التي امتدت أربعين سنة كاملة بعسرها ويسرها وشدتها ورخائها وكانت هذه السيرة القويمة لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من أبلغ الحجج المقنعة التي أقيمت في مشاهد عدة على الذين أنكروا نبوءته فقد وقف جعفر بن أبي طالب يخطب بين يدي النجاشي بحضور رسولي قريش الذين منهما عمرو بن العاص وكان من جملة ما قال في ذلك المشهد (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونسيء الجوار ونقطع الأرحام حتى بعث الله فينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وعفافه وأمانته) فليست هذه الصفات الحميدة بالطارئة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد البعثة إنها متأصلة متجذرة فيه نشأ عليها وترعرع بها فلما بعث من ربه بشيرا ونذيرا لم يتغير من سمته وسيرته شيئ سوى انه دعا الناس الى ما كان يأتيه بالفطرة والسجية لتصبح تلك السيرة وذلك الهدي مما يأمر به الله سبحانه وتعالى عباده المتقين وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائل الى الملوك يدعوهم الىى الاسلام كان هرقل ملك الروم من بين من توجهت اليهم هذه الرسائل ولما بلغت رسالة رسول الله عليه الصلاة والسلام الملك هرقل أمر ان يحضر الى مجلسه من هو موجود في بلاد الروم من التجار العرب وصادف ان كان أبو سفيان هناك الذي أحضر الى مجلس هرقل الذي دعاه الى اجابته عن أسئلة سيلقيها عليه وطلب منه ان يلتزم الصدق فلم يجد ابو سفيان من الصدق بدا وقد تمحورت كل أسئلة هرقل حول شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه وسيرته قبل البعثة وبعدها فقد سأله هل عرفتم عليه الكذب قبل بعثته؟ فأجاب أبو سفيان بالنفي فقال هرقل ما كان ليدع الكذب عليكم ويكذب على الله وسأله هل كان من آبائه من ملك؟ فأجاب أبو سفيان بالنفي فقال هرقل لو كان من آبائه من ملك لقلنا ادعى النبوة ليسترد ملك آبائه الى غير ذلك من الأسئلة المحرجة لأبي سفيان (الذي لم يسلم بعد) أجاب عنها بصدق لم يستطع خلافه وكانت نتيجته ازدياد هرقل إعجابا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخصاله وتوقا الى لقائه مستغلا ما ترسب في ذهنه من معرفة بسيرة من سبق سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم من الرسل والأنبياء الذين ينهلون جميعا من معين واحد هذا القرب من الناس والتواضع غير المتكلف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعدت عليه مجموعة من العوامل هيأتها الأقدار الإلهية منها ما يتعلق بالنسب الشريف الطاهر: آباء وأمهات فهو خيار من خيار فقد اختار الله تبارك وتعالى العرب من سائر الأمم واختار من العرب قريشا واختار من قريش بني هاشم واختار سبحانه وتعالى لسيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب أبا وآمنة بنت وهب أما ولحكمة الهية مات الأب قبل ميلاد الابن والتحقت به الأم بعد ميلاده عليه الصلاة والسلام بسنوات قليلة ليعيش عليه الصلاة والسلام فعلا وممارسة اليتم مع ما فيه من انحياز الى الضعفاء من عباد الله ومرت الأيام والرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يترعرع ويكبر ويرى فيه الأهل والأقارب وكل من يلتقي به الكمالات مما لا عهد لهم به عند أترابه كان صادق القول وفي الوعد أمينا لا تمس يداه حق سواه لأجل ذلك دعوه على صغر سنه للفصل بين نزاعاتهم ووضعوا عنده اماناتهم وخصوه بأسرارهم وتنافسوا على مشاركته في تجاراتهم فلم يزدد كل من يقترب منه الا تعلقا به وحبا له وتسليما بفضله وزاد الى كل ذلك عفة وطهارة وعزوفا عما يتوق اليه الشباب في سنه وعندما بعثه الله نبيا ورسولا لختم الأديان والرسالات لم يعدل في سلوكه شيئا ولم يزد عن ان يدعو الناس مدعوما بهدي السماء المنزل عليه الى الاقتداء به في السيرة والسلوك لأن تلك السيرة وذلك السلوك القويم هو المحقق لمرضاة الله سبحانه وتعالى ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي من نفسه القدوة والمثل ولا يمكن ان يدعو الى فعل ما لا يأتيه أو اجتناب ما لا يمارسه فقد كان سباقا الى الخير ينافسهم فيه كما كان سباقا الى اجتناب الشر والإعراض عنه وحتى عندما قابلوا دعوته لهم بالنكير والإعراض والتكذيب لم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وتذكيرهم وإقامة الحجج والبراهين لعلهم يقتنعون فينجوا ولا يهلكوا كان يقول لهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وكان يقول لهم (الرائد لا يكذب أهله) وكان يأمرهم بالصلاة ويصطبر على أذاهم وحتى عندما قاطعوه بعد ان آذوه وتسلطوا عليه وعلى أصحابه لم يزد على أن قال (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وذلك هو عين ما قاله لأهل الطائف الذين أطلقوا عليه صبيانهم وكلابهم واخرجوه في الرمضاء قد جعل الله مصيرهم رهن إشارته لقد اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم لا عليهم والتمني على الله ان يخرج من أصلابهم من يعبده ويوحده، يا له من خلق عظيم لا يمكن ان يرتفع الى مستواه إلا من أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقريش التي آذته وآذت أصحابه وتسلطت عليه وعلى أصحابه وأخرجته واخرجتهم من مكة بأيد فارغة واخرى لا شيء فيها بل لاحقتهم الى المدينة المنورة قريش هذه هي التي جاء رؤساؤها صاغرين يوم الفتح الأكبر لمكة المكرمة سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تروني فاعل بكم اليوم؟ قالوا أخ كريم ابن أخ كريم هنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته الشهيرة اذهبوا فأنتم الطلقاء صلى الله عليك يا رسول الله ما أكرم خلقك وما أعظمه وكم كان لهذا الدفع بالتي هي أحسن والصفح والعفو والإحسان والتجاوز من أثر بالغ على النفوس التي استرقها هذا الخلق الرضي من رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفق والرحمة والرأفة والسلم والأمن والعطف والحب كل تلك وغيره مما يقاربه في المعنى والمبنى هو الغالب على سيرة وسلوك رسول الله- في كل أحواله هذه الأحوال التي لم تغب عنها شاردة ولا واردة عن أصحابه وأهله وكل من عاشره واجتمع به عليه الصلاة والسلام لقد حفظوا لنا كل ذلك ومحصوه وغربلوه فما وجدوا عوجا بل رأوه متطابقا تمام التطابق مع ما جاء به من عند الله من وحي مبين تضمنه الكتاب العزيز القرآن الكريم لقد كان عليه الصلاة والسلام قرآنا يمشي على الأرض كان كما قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن) وقبلها شهدت له بكريم الأخلاق السيدة خديجة رضي الله عنها التي عرفته قبل البعثة حيث قالت له وهو العائد مرتجفا من شدة ما لاقاه من مفعول التنزل الأول للوحي عليه (والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف) وهل هناك أعرف بالانسان من أهله وزوجه فهؤلاء الذين لا يمكن إخفاء نقيصة عنهم ومع ذلك فإن أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء زوجتاه خديجة وعائشة أو ابناه الحسن والحسين أو أمهما فاطمة وأبوهما علي هؤلاء جميعا رأوا في رسول الله العجب العجاب انه كان كأحدهم يخدم نفسه ويخيط ثوبه ويرقع نعله ويقول (صاحب الحاجة اولى بحاجته) يلاطفهم ويمازحهم ويلاعبهم ويضحك في وجوههم ويسابقهم يفعل كل ذلك على سجيته وبكل تلقائية ولا يرى في ذلك غضاضة ولا أدنى منقصة بل يجيب من استنكر ملاطفته لابنه مدعيا ان له عشرة من الأبناء لم يفعل بهم في يوم من الأيام ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ماذا تريد مني ان أفعل لك اذا كان الله قد نزع من قلبك الرحمة من لا يرحم لا يُرحم ) وعندما وطأ أحد الأعراب ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتجفت فرائصه استعظاما لما وقع منه عفوا هون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هون عليك ما انا الا ابن امرأة من قريش كانت تاكل القديد) وعندما يطالبه بحيلة أحد أصحابه تمكينه من الاقتصاص منه لم يتأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستجابة وذلك بكشف جزء من بطنه ليقتص منه هذا الصحابي ولكنها لم تكن الا حيلة دفعت اليها النية الحسنة كي يتمكن هذا الصحابي من تقبيل بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك آخر عهد له بالدنيا وقد نادى منادي الجهاد وعندما تبول أعرابي في ركن من المسجد وتداعى اليه الصحابة ليضربوا عنقه ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن صدهم عن ذلك وأمرهم بإهراق دلو من الماء على ذلك البول واعلام أخيهم بان هذا المكان غير معد لذلك فما كان من الأعرابي الا ان صرخ بأعلى صوته متنفسا الصعداء وقائلا (اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا احدا ) لقد خدم سيدنا أنس بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات خرج منها بشهادة لا يمكن ان يحرز عليها الا من كان على خلق عظيم قال أنس (خدمت رسول الله عشر سنوات لم يقل لي فيها أف قط ولم يقل لشيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله ولكن كان يقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) والحديث عن خلقه وهديه، عن رفقه ولينه، وعطفه وتواضعه حديث يطول فقد كان بساما يبدأ من يعترضه بالسلام ويقف مع من يستوقفه ويجيب دعوة من يدعوه: امرأة أو عجوزا أو طفلا صغيرا يجبر الخواطر ويحرص على إدخال المسرة بكل طريقة على أصحابه يوزع بينهم بعدل نظراته بل يضع يده الكريمة في أوانيهم جميعا وقد كان يكفيه وضعها في الإناء الأول ويمسح على رأس اليتيم ويضمه الى صدره ويقبله ويؤثره على نفسه ويمر عليه اليوم واليومان والثلاثة ولا يدخل بطنه إلا الأسودان التمر والماء ويجوع الى ان يضع بين بطنه وحزامه حجرا وقد خيره ربه بين ان يكون رسولا ملكا أو رسولا مسكينا فاختار ان يكون رسولا مسكينا متمنيا ان يحشره معهم نافيا الإيمان عن من يبيت شبعان وجاره الى جانبه جائع، لقد جعل عليه الصلاة والسلام من التراحم والتعاون بين المؤمنين من أتباعه سلوكا ومنهجا به تحقق مرضاة الله ولقد دعا عليه الصلاة والسلام المسلمين الى ان يكونوا كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى وشبههم عليه الصلاة والسلام بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه البعض ومدح عليه الصلاة والسلام الأشعريين الذين كانوا اذا أرملوا (قل ما عندهم) جمعوا ما عندهم واقتسموه في ما بينهم بالسوية قال عليه الصلاة والسلام (هم مني وانا منهم ) وهذا التراحم بين المسلمين والتفريج لكروب بعضهم البعض والقضاء لحوائج بعضهم البعض والوقوف بجانب بعضهم البعض هو المجسم للايمان لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اذ (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل) فالمسلم فضلا عن انه مطلوب منه ان يكون سلاما وامنا بالنسبة لأخيه المسلم حرام دمه وماله وعرضه والمسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده ولا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يأمن جاره بوائقه فضلا عن ذلك فإن المسلم مطالب بالامتثال لما جاء به رسول الله صلى الله عليه من هدي وبذل لتجسيمه في الواقع حتى لا يبقى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد شعارات مرفوعة ليس لها من اثر في حياة المسلمين.

الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.